شخوص المسرحية:
- الملك نبوخذ نصر
- المستشار
- كبير الكهان
- كبيرة الكاهنات
- كاهن (1)
- كاهن (2)
- كاهن (3)
- جوقة لأداء الترانيم والرقصات
- رجال يمثلون حاشية الملك
- نساء ورجال يمثلون سكان مدينة بابل
المشهد الأول:
(المكان/ عرش الملك. الزمان/ نهار. يسمع صوت قيثارة. تبدأ الفرقة بالرقص في حركات منتظمة الشكل على إيقاع القيثارة. حاشية الملك عن يمينه وعن شماله يطربون للعزف والرقص، الملك يبدو مشغول البال، يقترب منه المستشار وينظر إليه بحيرة ويهز رأسه أسفا)
إظلام
المشهد الثاني:
(المكان/ غرفة الملك. الزمان/ نهار. الملك نبوخذ نصر يقطع الغرفة ذهاباً وإياباً)
- نبوخذ نصر: (يحدث نفسه) كيف؟ كيف أعجز عن تفسير ما يحدث.. (بصوت عال) أنا نبوخذ نصر قائد الجيوش الجرارة، خضت معارك ضارية، واستوليت على بلدان بعيدة، قاتلت في حران والجزيرة، مثلما قاتلت في فلسطين ومصر، ووقفت على شواطئ قورينا، واغتسلت بمياه البحر المتوسط، واستنشقت نسيم البحار.. (يتوقف) أنا نبوخذ نصر، ملك بابل العظيم، الحاكم العزيز المفضل لدى الإله مردوخ محبوب الإله نابو صاحب الفطنة والذكاء، أنا الابن البكر لنبوخذ نصر الذي جعل مردوخ رأسه شامخا وأعطاه حكم الناس القاطنين في الأقاليم القصية (يركع نحو تمثال مردوخ) سيدي مردوخ! يا عظيم الآلهة، يا جبار! تنفيذا لأمركم الإلهي بنيت مدينة الآلهة، وشيدت الجدران، جددت المخدع، وأكملت المعبد. وبناء على أمرك السامي الذي لا يُخالف، وصّلت بنفسي الأوتاد الخشبية (يهز يديه) بيدي هاتين. كل ذلك من أجل أن تبقى قائما خالدا على مر العصور. (صمت ثم يكمل) هلا تخرجني من حيرتي وتدلني على بغيتي .. لا أريد لقاء عابراً ينتهي بسؤالي عن سبب حزنها، بل أريدها بقربي دائماً.. (حائراً) سأجن إن لم أحظ بها.
(يدخل أحد الحرس، يقف الملك نبوخذ نصر محاولا اخفاء الوضع الذي كان عليه قبل دخول الحارس)
- الحارس: (ينحني) مولاي المعظم المستشار يستأذنك في الدخول.
- نبوخذ نصر: (بإشارة من يده) فليدخل على عجل.
(ينحني الحارس ويخرج ثم يدخل المستشار)
- المستشار: (باهتمام) مولاي الملك ما الذي حل بك يا مولاي؟ فقد طار عقلي من رأسي هذا الصباح حين خطوت نحو باب المعبد عائدا الى قصرك، وقد تراجعت الى الوراء قليلا.
- نبوخذ نصر: (مقاطعا غير مبال) وما يعني ذلك؟
-المستشار: (بصبر) لا يعني شيئاً لولا أنك وضعت يدك على صدرك، صاحبت ذلك انحناءة واضحة... وكلمات فضحت ملكة الشعر المدفونة داخلك.
- نبوخذ نصر: (وجها لوجه) هل شاهد الجميع ما شاهدته أنت؟
- المستشار: (بسخرية) لقد شاهدك كل من له لب! شاهدك مرافقوك المدججون بالحراب والسيوف، وهذا ما أثار استغرابهم، فكيف لملك عظيم مثلك ينحني بتواضع؟ عذرا على جرأتي يا مولاي.
- نبوخذ نصر: (يشعر بالحرج ثم يلملم شتات نفسه فيبادر) ربما أنت لا تعلم ايها المستشار أنني أعيش في محنة كبيرة منذ سنوات، حدثت لي بعد أن تزوجت أنا من أميديا.
- المستشار: آمل أن تقول لي أيها الملك العظيم شيئا مما حل بك، فلربما أشرت أنا عليك ببعض الأفكار التي قد تساهم في تقديم حلٍ للمحنة التي تعيش فيها أنت يا مولاي.
- نبوخذ نصر:(دون تردد) إني ومنذ سنوات أطارد امرأة
-المستشار: امرأة؟
- نبوخذ نصر: نعم، امرأة.
(على الجانب الآخر تظهر أنوار البابلية مثل شبح)
- نبوخذ نصر: (بلهفة) قاسمت جميع نساء الدنيا بجمالها، فهي حلوة المبسم، لها شفتان رفيعتان رقيقتان يزدان بهما وجهها الجميل. مثلما يزدان بعينيها الساحرتين حين تتدلى عليها خصلات من شعرها الحريري، تخرج أمامي في مكان ما وفي وقت ما دون سابق إنذار.. (تقترب أنوار البابلية بثوبها الطويل وشعرها المنساب من خلف وشاحها القصير) وعند ظهورها يشتغل العقل والقلب وجميع الحواس بها، وتنقطع عني كل صلة بالمكان الذي اضع قدمي عليه.. وأنسى عرشي وعظمتي وجيوشي وانتصاراتي فأنحني لها إجلالا (ينحني الملك نبوخذ نصر ويقبل يدها. يصدم المستشار لهذا المشهد).. لأنها تأخذني إلى عالم من السحر والجمال (تتشابك أيديهما ويدوران مرات عدة) إنها نصري الحقيقي.. ولن أهدأ الى أن أظفر بها في يوم من الأيام.
المستشار: أين رأيت تلك المرأة يا مولاي المعظم؟
- نبوخذ نصر: (ما زال برفقة أنوار البابلية شابكا كفيه على كفيها) تلك المرأة! تلك المرأة! أراها في كل يوم وليلة، تارة تقف أمامي، وتارة ترسل لي ابتسامة عذبة تسلب اللب مني، ولكني أحياناً حين أقترب منها.. (بحماس) تفر مسرعة من بين يدي، وأظل ألاحقها ببصري، بينما تقف هي تحت ظل شجرة من جنائني المعلقة، وأحيانا أشاهدها كاشفة عن ساقيها الممتلئين تحت شلال ماء صهريج متدفق من أعلى مكان في تلك الحدائق، ولطالما أشرقت هي مثل نجمة مشعة حين يهبط الليل ويضم بأجنحته مدينة بابل العظيمة.. (بحزن) لقد صرت أبحر في قلق دائم، يتسرب شيء من الخوف لنفسي.
(المستشار يلوذ بالصمت، يقلب بيديه حائراً ثم يراقب كل حركة من حركات الملك عله يرى أنوار البابلية)
- المستشار: من تكون هذه المرأة؟ ومن أي مدينة هي؟
- نبوخذ نصر: (ينظر إلى أنوار البابلية بنشوة العاشق وتبادله النظرة نفسها ولكن بحزن) أنا لا أعرفها، لكنها بابلية، تظهر لي دائما مبتسمة، ثم فجأة، تتبدل ابتسامتها إلى حزن شديد.
- المستشار: (باهتمام) هل تراها حين تشتاق إليها، أم تظهر في كل آن؟
- نبوخذ نصر: أراها واقفة في شارع الموكب صباحا، وبالقرب من بوابة عشتار مساء، وفي أوقات بالقرب من الزقورة، وهذا يعني أنها من بابل.
- المستشار: (يراقب ويفكر) وقد تكون هي قد انتقلت من مكان آخر، أليس ذلك محتملا يا مولاي المعظم؟
- نبوخذ نصر: (ينظر إلى عيني أنوار البابلية) لا أعلم، فأنا لا أعرف شيئا عنها سوى جمالها الساحر الذي استولت به على مشاعري.
-المستشار: (محاولا رؤية أنوار البابلية بكل طاقته) هل هي موجودة الآن؟
- نبوخذ نصر: (يرفع يدي أنوار البابلية) أجل، هي موجودة الآن. بقربي.
- المستشار: ألم تدعُ مردوخ العظيم أن يخرجك من هذه المحنة؟
-نبوخذ نصر: بل إنني توجهت مرات عدة الى المعبد، ودعوت الإله مردوخ أن يحقق منيتي بلقائها، وفي أي مكان من هذا العالم الفسيح. فأنني أريد أن أحدق في عينيها الخضراوين، مثلما أريد أن أنظر الى شفتيها، وهي تلفظ الكلمات برقة متناهية (يقف حائراً) ثم أسألها عن سبب حزنها العميق.
(تتراجع أنوار البابلية وتهز رأسها ثم تخرج باكية. يحاول الملك اللحاق بها ولكنها تتلاشى فيشعر بغم شديد)
-المستشار: ( وكأنه وجد الحل) ليسمح لي الملك العظيم أن أقدم اقتراحا مقبولا يمكنه الأخذ به.
- نبوخذ نصر: تكلم.
- المستشار: أنت تعلم يا مولاي أن المعبد الكبير للإله مردوخ يتعبد فيه الكثير من الكاهنات والكهان، مثلما يتعبد به المنجمون والمنجمات، فهؤلاء يتخذون من معابد المملكة أماكن تجارية يبيعون فيها تجارتهم على المتعبدين من سكان مدينة بابل خاصة في مواسم حصاد الغلة، وجني ثمر النخيل.
- نبوخذ نصر: (بصبر نافد) وكيف لا أعلم أيها المستشار.
-المستشار: (مستمرا بالوتيرة نفسها) وبينهم الكثير من العاملين في الزراعة يتوجهون صوب المعابد يطلبون النصح والإرشاد من المشعوذين الذين يوهمونهم بأنهم على معرفة بكل ما يريده سكان بابل من أجوبة على أسئلة تتعلق بصحة أجسادهم، أو تتعلق بما تخبئ لهم الأيام.
- نبوخذ نصر: (مقاطعا) أسعفني بالجديد أيها المستشار فقد نفد صبري.
- المستشار: (يخطو نحو الملك) الكهنة.
- نبوخذ نصر: (متسائلا) الكهنة؟
- المستشار: (بحماس) نعم، عليك بسؤال الكهنة .. فالشك لا يتسرب من تنبؤاتهم.
- نبوخذ نصر: (يسير مبتسما) لا بأس، مادامت هذه الفكرة نتاج عقلك.
- المستشار: (متحفزا ويسير خلف الملك بخطوات سريعة) كما يطيب لي أن أقترح على ملك بابل العظيم الذي قاد الجيوش، وأذلّ الملوك أن يسأل عن تلك المرأة كبيرة كاهنات المعبد بالذات، وليس كبير الكهنة.
- نبوخذ نصر: (يلتفت نحوه وباهتمام) كبيرة الكاهنات؟
- المستشار: (بحزم) أجل، فالنساء يعرفن بعضهن البعض أكثر من الرجال الذين قد يجهلون ما يدور في عقول النساء في الكثير من الأحيان.
- نبوخذ نصر: (يهز رأسه) حقا.
-المستشار: حقا وصدقا يا مولاي المعظم، فالرجال يرتكبون الكثير من الأخطاء في تعاملهم مع النساء بسبب سوء الفهم.
- نبوخذ نصر: (معلنا) تركت الأمر إليك فاستعد.
- المستشار: (ينحني) أمر مولاي، أمر مولاي
(يخرج المستشار ويبقى الملك يتأمل المكان الذي ظهرت منه أنوار البابلية)
إظلام
المشهد الثالث:
(المكان/ المعبد الكبير. الزمان/ مساء. حشد من المنجمين والكهنة والكاهنات في المعبد الكبير)
- كاهن (1): (متسائلا) ترى ما الهدف الحقيقي من وراء زيارة الملك المزمعة؟
- كاهن (2): (دون أن يلتفت) اعتقد أن الملك يعد العدة للقيام بحملة عسكرية يؤدب فيها أحد المماليك لرفضه دفع الجزية.
- كاهن (3) :(يتدخل) أو ربما الملك العظيم يريد أن يشق قناة عظيمة من نهر الفرات حيث الأراضي التي تقع على الضفة الغربية منه.
- كاهن (1): (بحماس) لربما يريد أن يشيد قصرا جديدا، أو ربما جنائن معلقة أخرى.
- كاهن (1): (مقاطعا) أمر لا يصدق، فلم يمض الكثير على مكوثه في القصر الجنوبي الذي أعاد هو بناءه من جديد، وجعله من أكبر وأفخم قصور الدنيا قاطبة، يضاهي بفخامته بوابة عشتار التي أشادها بهندسة رائعة، لم تعرف الدنيا لها مثيلا.
- الكاهن الكبير (منزعجاً): كفى ظنونا، ولننتظر، فما هي إلا ساعات وينجلي الأمر بحضور الملك نفسه الى المعبد، وسيصرح بما يريده منا جميعا.
إظلام
المشهد الرابع:
(المكان/ شارع الموكب. الزمان/ مساء. تدخل طلائع موكب الملك، تحف به الفرسان والخدم يمينا ويسارا. يحتشد بعض من سكان مدينة بابل على طوال جانبي شارع الموكب، مرحبين بقدوم الملك نبوخذ نصر. يخرج رجل من بين الحشد)
- الرجل: (يرفع يده هاتفا) يعيش نبوخذ نصر الثاني ..
- مجموعة من الناس: (مرددين) يعيش نبوخذ نصر الثاني..
(فجأة، يتوقف الملك نبوخذ نصر ويسير بضع خطوات وسط حشود الناس الذين يتراجعون منحنين هيبة منه. الملك ينظر باهتمام نحو بقعة محددة، الصمت يخيم على الجميع. كأن على رؤوسهم الطير. الملك يصل إلى مكان محدد ويقف).
- نبوخذ نصر: (ينحني ثم يبتسم) اشتقت إليك.. شعرت بوجودك قبل ظهورك.. وما أن التفت حتى وجدتك.. اسمحي لي أن أقبل يدك (يركع على ركبة واحدة ويظهر كأنه يقبل يد شخص ما. يتراجع الناس من هول الصدمة).. آه كم أعشقك يا أنوار.. (يقف متحمساً) هل تعلمين، لقد اخترت لك اسماً مركبا مناسبا.. ما رأيك باسم (مستعرضا) أنوار البابلية؟ ما رأيك؟ أها.. إني سعيد لأنه أعجبك.. (بحزن) اجيبيني يا أنوار البابلية: ما سبب هذا الحزن الذي أرَّق مهجعي؟ كيف لا أهتم وحزنك هذا يشّرح شغاف قلبي وتتجزأ بسببه روحي أجزاءً لا أتمكن بعدها من جمعها إلا بشق الأنفس.. مم، جيبي يا أنوار البابلية؟ (يركع على ركبتيه ويتوسل) أتوسل إليك أن تردي علي.. (يقف مستسلما حزيناً ونظره نحو مكان بعيد) هكذا.. مثل كل مرة.. أسألك عن سبب حزنك فتمتنعي عن الإجابة ثم تتلاشين.. (يعود إلى مكانه في مقدمة الموكب ويرى الحيرة على وجوه الجميع ويأمر باستئناف المسير. يخرج الموكب من الجهة الأخرى)
إظلام
المشهد الخامس:
(المكان/ المعبد الكبير. الزمان/ مساء. الكهان ينظرون نحو الجهة الأخرى استعداداً للقاء الملك نبوخذ نصر)
- صوت المنادي:(بصوت جهوري) الملك نبوخذ نصر الثاني
(يدخل الملك مع مستشاره، ينحني له الجميع)
-المستشار: (يتوسط الجميع معلنا) أأمر الجميع أن يصغوا إلي جيدا (يرفع صوته) على جميع المشعوذين والمنجمين الخروج من المعبد حالا، ومن يتخلف منهم سيكون مصيره الموت بسيوف الجند القاطعة.
(يخرج جميع المشعوذين والمنجمين بطريقة مضحكة: الواحد منهم يسقط فوق الآخر من شدة تزاحمهم على أبواب المعبد، في هذه الأثناء يقترب المستشار من الكهنة): عذرا، يلزم خروجكم أيها الكهنة والكاهنات أيضا. (يخرج الكهنة جميعا).
-المستشار: (يهمس بالقرب من كبيرة الكاهنات) غير ملزم خروجك يا كبيرة الكاهنات، فالمقصد من حضورنا هو أنت.
(تتوقف كبيرة الكاهنات ويهمس المستشار في أذنها فتبدو عليها الدهشة والحيرة ثم تهمس له بكلام فيظهر على محيا المستشار الصدمة وتجحظ عيناه. يشاهد الملك كل ذلك فيبدو عليه الوجل)
- نبوخذ نصر: (بغضب) أيها المستشار؟ ماذا أخبرتك كبيرة الكاهنات؟
- المستشار: (يرتجف) قالت لي الكاهنة، أنها تعرف ما يريده الملك العظيم منها يا مولاي.
- نبوخذ نصر: (بصوت مرتفع نحو كبيرة الكاهنات) يا كبيرة الكاهنات هلّا أخبرتني عن غاية حضوري؟
- كبيرة الكاهنات: (تتوكأ على صولجانها وتقف في الوسط بشجاعة): لن تستطيع الظفر بأنوار البابلية يا ملك بابل العظيم.
- نبوخذ نصر:(بذهول) ماذا؟
- كبيرة الكاهنات: (بالشجاعة نفسها) تلك أمنية ستموت بموتك. (تضرب بصولجانها الأرض) فالوصول الى أنوار البابلية مستحيل ثم مستحيل ثم مستحيل!
- نبوخذ نصر: (بعد صمت وبغضب شديد) اقطعوا لسان هذه الكاهنة.
(يدخل الحراس ويطوقون كبيرة الكاهنات للقبض عليها ولكن الملك سرعان ما يشير إليهم بالتوقف والخروج)
- نبوخذ نصر: (هامسا بأذنيها) أيتها الكاهنة الغبية تعلمين جيدا أنني من قاتل الميديين الفرس، وسقتهم أسرى كالأغنام الى بابل العظيمة.
- كبيرة الكاهنات: (بصلابة) أعلم يا مولاي
- نبوخذ نصر: والآن يسيرون أذلّاء في شارع الموكب أمام عينيك، وأمام أعين الجميع، وهم الآن عبيد عند أهل بابل، وهذا العبد الذي يقف في خدمتك (يشير إلى أحد الخدم) هو واحد منهم.
- كبيرة الكاهنات: (بالصلابة نفسها) أعلم يا مولاي
- نبوخذ نصر: وتعلمين أني أنا نبوخذ نصر، أنا ملك بابل العظيم، أنا الملقب بمقيم المدن، فكم من مدينة فتحتها، وكم من ملك خضع صاغرا لي.
- كبيرة الكاهنات: ( بالصلابة نفسها) أعلم يا مولاي
- نبوخذ نصر: (بحرارة) أنا الذي هزمت الفراعنة بمعركة كركميش حين قادهم ملكهم نخاو الثاني فيها، ووقت أن استنجد به الآشوريون، أنا الذي بسطت سيطرتي على تدمر وفينقيا، أنا الذي هدَّ أسوار مملكة عسقلان، أنا الذي اقتحم مدينة أُورشليم وجعل ملكها مسبيا.
- كبيرة الكاهنات: (بالصلابة نفسها) أعلم يا مولاي
- نبوخذ نصر: وتعلمين أيضاً أني قمت بتنصب ابنه “صدقيا” ملكا عليها، ولكنه حين عصاني، ورفض دفع الجزية لمملكة بابل سبيته هو وحشدا من سكانها، وهم الآن عبيد في بابل.
- كبيرة الكاهنات:( بالصلابة نفسها) أعلم يامولاي.
- نبوخذ نصر: ( يدور حولها) عليك أن تسألي نفسك من بنى الزقورة، ومن أشاد الجنائن المعلقة، ورفع الماء إلى سطوحها لتنعم سيدات البلاط بظلال الشجر، وبرود النسيم حين يحل الصيف على بابل العظيمة. (مفتخرا) أنا الذي رصع باب عشتار بالحجر الأزرق.
- كبيرة الكاهنات: (تضحك بصوت مرتفع ثم بهمس) تقصد ذلك الباب الذي سيزين مدينة برلين بعد أن يسطو عليه لصوص الغرب، وينقلونه من بلاد الرافدين الى بلاد الآريين؟
- نبوخذ نصر: ما الذي تقوليه!؟ أسمعيني ثانية؟
- كبيرة الكاهنات: (تلوذ بالصمت)
- نبوخذ نصر: (يرجع إلى موضوعه السابق) أبعد كل هذا وغيره كيف تريدينني ألا أصل الى أنوار البابلية؟ هل عميت بصيرتك، وخفَّ عقلك، أيتها الكاهنة الغبية! (متوعداً) عليك أن تثقي أن أنوار ستكون هنا في بابل، وستعيش في بابل، ولن يستطيع أحد أن يحرمها من رؤية عظمة مدينة بابل، ومن رؤيتي، فأنا وهي، على أكثر الظن ولدنا في هذه المدينة، وتعانقت روحي وروحها في سماء العشق الأبدي.
- كبيرة الكاهنات: (بنفاد صبر) أيها الملك العظيم! يا مقيم المدن! لم أقصد الحط من قيمة انجازاتك العظيمة، ولم أرد أن أصفك بالعجز، ولكن مقصد كلامي عصي عليك.
- نبوخذ نصر: (بغضب) لا يعصى عليّ أمر.
- كبيرة الكاهنات: (مترددة) إنَّ أنوار البابلية لم.. (صمت)
- نبوخذ نصر: م، أكملي؟
- كبيرة الكاهنات: (تضرب بصولجانها الأرض) لم تولد بعد.
- نبوخذ نصر: (يتراجع مذهولا) ماذا؟.. ماذا تقصدين؟
- كبيرة الكاهنات: (بسخرية) ألم أقل أنَّ القضية عصية عليك؟
- نبوخذ نصر: (بأمر) تكلمي بوضوح.
- كبيرة الكاهنات: (تسير بضع خطوات وتتوقف) نعم، أنوار البابلية، لم تولد بعد وتفصلك عنها مسافة زمنية مقدارها أكثر من ألفين وست مائة سنة.
- نبوخذ نصر: (بالذهول نفسه) كيف يكون ذلك؟ وكيف أجدها إذن؟
-كبيرة الكاهنات: عذرا فلست أنا من كيّف الكيف وأيّن الأين! ولو كانت المسافة أرضية لما توانيت أنت عن قطعها، ومن ثمة الظفر بأنوار البابلية الجميلة التي ستنير بجمالها مدينة بابل. مدينتك هذه العظيمة كما تخيلت، ولكنها ستكون في بابل.. (تتغير نبرة صوتها وتستعرض بألم وحزن) ولكن ليس بابل اليوم بل.. حين تعود أطلالا، ولا يحيط بها سور.. تجري عليها العربات، مثلما يفعل سكانها اليوم، ستكون بابل مدينة لا يهابها أحد، ولا يخشى سطوتها حاكم، أو ملك، ستعبث بأسوارها جيوش شتى حتى تلك التي هزمتها اليوم، وسيدوسون على بلاطك العظيم بأقدامهم القذرة، وهو البلاط الذي لم يدس عليه فاتح في زمنك وزمن أجدادك، أولئك وحوش المال سيصلون لها من بلاد قصية، ويعبرون في طريقهم إليها بحارا ومحيطات، وقت أن يخذلك أهلها ويخذلونها، وحين يرقص البعض منهم فرحا ساعة احتلالها.
(الملك نبوخذ نصر يمسك رأسه بيديه مرعوبا مما يسمعه)
- كبيرة الكاهنات: حقيقي أنك ترى أنوار البابلية بيقظتك ومنامك، ولكنك لن تصل إليها، فهي لا تزال في رحم الزمان، وفي القادم من الأيام، ولن تولد إلا حين يحل الخراب جنائنك المعلقة، ووقت أن تدوس عليها عجلات الأعداء، وتحوم عليها غربان السياسة، وساعة أن تضام فيها أنوار البابلية الحبيبة التي لم تولد بعد!
- نبوخذ نصر: (يهمس) واويلتاه..
- كبيرة الكاهنات: (تقترب منه وبألم عميق) وأعلم أيها الملك العظيم أن هناك رجالا كثر يأمرون بعدم مقاومة المحتلين الغاصبين خوفا على مصالحهم، فيغدو الشعب مغلوبا على أمره بين ليلة وضحاها، لا يستطيع لنفسه نفعا بل ضرا، فكلما تعالى صوته بالرفض يقابل بالموت والنفي والتغييب.
(الملك نبوخذ نصر يضع كفيه على أذنيه محاولا عدم سماع كلام كبيرة الكاهنات، ولكنها تقترب منه أكثر وتصر على إسماعه)
- كبيرة الكاهنات: (تصرخ في أذنه) كل هذا سيحدث يا ملك بابل العظيم، كل هذا الذي يحز بالنفس، ويدمي القلب ستشهده مملكتك، وبلادك التي سيحكمها من صيرتهم عبيدا ممن يدورون في طرقات بابل اليوم، سيكون هؤلاء العبيد هم من ينصب الحكام، وهناك آخرون من عبيد المال والمناصب يجرون خلفهم.
- نبوخذ نصر: (يسقط جالسا على الأرض)
- كبيرة الكاهنات: أنا أعرف أن حديثي هذا سيهز مشاعرك، ويثير غضبك، خاصة حين تكون حبيبتك أنوار البابلية تعيش في فترة حكمهم المظلمة، أنا أعلم أن ذلك سيصعب عليك، سيقض مضجعك، ويزيد همك، حين أقول لك مثلما تقول لي النجوم إن حبيبتك أنوار سترى الظلم بعينها، يحرمونها لذة العيش، ويعرضونها لسوء معاملة، أسقطت على إثرها حملها وهو في شهوره الأخيرة، ستقول لي إنك ستبني لها أربعا من الجنائن المعلقة، وبعدد فصول السنة، مثلما بنيت لزوجتك أميديا الميدية الجنائن الحالية، ولكن هذا سيكون عليك جد متعذر، ولا يمكنك تحقيقه لها.
- نبوخذ نصر: (بعد تفكير) الآن علمت سبب حزن أنوار البابلية.
- كبيرة الكاهنات: (بأسف) إنه حزن بابل الذي قد لا ينتهي.
- نبوخذ نصر: (صارخا بأعلى صوت): لااااااا..
(يتردد صدى صوته ثم إظلام ويرتفع صوت جهوري مجهول)
الصوت الجهوري المجهول: إنها ذات الصرخة التي أطلقها من قبل جلجامش، ملك سومر العظيم في مدينة أوروك، حين رأى الدود يتساقط من أنف صديقه أنيكيدو في اليوم السابع من وفاته، حيث عز على جلجامش دفنه.
(فاز هذا النص بالمركز الثالث في مهرجان شبكة أبابيل الدولي عام ٢٠٢١ ولم ينشر من قبل)