أيلول/سبتمبر 12
   
 الصداقة، بأبسط تعاريفها، هي علاقة اجتماعية غير رسميةٍ مبنيةٍ، خلافًا للقرابة، على الاختيار والطواعية: نحن نبحث عن الأصدقاء ويهُمنا أن نرتبط بعلاقةٍ بهم. والصداقة. بناءً على ذلك، تُمثل الصداقة علاقة مكتسبة لا متوارثة أو أمرا مُسلما به، وتتصف في العادة بأنها وجدانية مع ملاحظة التنوع الهائل في “محتواها العاطفي” (بين 1959). وتُعد التبادلية، المتعلقة بالفوائد المتوخاة من الصداقة أحد متطلباتها الضرورية. 
تسود في بعض المجتمعات علاقات صداقات لا متماثلة يتعذر أحيانا تمييزها عن الرعاية والموالاة. والصداقة، بعد ذلك، مبنيةٌ على المشاركة؛ فزيادة على الجوانب ذات القيمة المادية، يشارك الأصدقاء بعضهم في قضاء الوقت، وفي مواجهة المشكلات ووضع الخطط والآمال والأفكار. بيد أن هذا العلاقة تحمل معها مخاطر كذلك: فإذا تشارك الأصدقاء الأسرار، ثم انهارت علاقتهم لسببٍ ما، فقد يؤدي بهم هذا الموقف إلى النميمة والعداوة. لاحظ الباحثون في هذا الجانب خلو علاقة الصداقة عموما من توقعات دور ثابتة على الرغم من تبني العديد من المجتمعات لتوقعات ومعايير واضحة المعالم.
يبدو واضحا، من منظور الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية المقارنة، التنوع الكبير في مفاهيم الصداقة وتصوراتها مع اشتراكها في بعض الجوانب الأساسية. وما زلنا، حتى هذا اليوم، نفتقر إلى البيانات المتعلقة بالمعاني المختلفة المقترنة بالأصدقاء والصداقة في المجتمعات المتنوعة وحتى في داخل المجتمع الواحد. هناك العديد من المفردات التي تدل على “الصديق” في أكثرية اللغات. في اللغة الإنكليزية مثلًا هناك: “pal, chum, buddy, bosom friend, old friend, etc.” التي تُساعد على التمييز بين أنواع ومعاني العلاقات الاجتماعية المعروفة إجمالًا بـ “الصداقة”. يُمكن أيضًا ملاحظة المفاهيم المختلفة للصداقة في داخل المجتمع الواحد في ما يتصل بالجنس والعمر والمكانة الاجتماعية فضلاً عن الأماكن أو السياقات المختلفة التي تقع فيها هذه الصداقات مثل مناطق الجوار أو المدرسة أو مواقع العمل. كما أغفلت الدراسات البحثية دراسة جانب آخر مهم هو “تطور” الصداقة ونموها. فالصداقة لا تتغير عبر الزمان وحسب، بل تتأثر بمدةِ بقائها، بمعنى إن الصداقة بعد عشرين عامًا، مثلًا، على شاكلة جميع العلاقات العاطفية الأخرى، ليست هي الصداقة التي كانت عليها في لحظات تشكلها الأولى.
الصداقة، بحسب الأنثروبولوجية (سارة اوهل) (1991)، هي إحدى أنواع “المؤسسات غير المتمأسسة” التي تختلف عن العلاقات الناجمة عن قرابة الدم أو القرابة المصطنعة. وهذا التعريف يتجاهل حقيقة تحول الصداقة إلى علاقات أكثر تمأسسا، مثل الأبوة المشتركة، في أية مرحلة قادمة من مراحل دورة الحياة.
 
الاهتمام الأنثروبولوجي بـ “الصداقة”:
في حديثها عن الصداقة، حددت (سارة اوهل) أحد أهم المعوقات التي تقف حائلًا دون إجراء دراسات بحثية منتظمة عن هذه العلاقة. إذ على الرغم من تمثيل هذه العلاقة ظاهرةً عامةً، ما تزال النظرة إليها تميل إلى وضعها في خانة العلاقات الخاصة. ومع أن الشيء ذاته يصدق على الزواج، يُلاحظ تمثيل العلاقة الأخيرة أحد أهم الموضوعات في الأنثروبولوجيا منذ بواكير انطلاقها. إذ عُرف الأنثروبولوجيون غالبا بتركيزهم على القرابة التي صرفت أنظارهم عن مفاهيم الصداقة المتداخلة أحيانًا.  
اللافت للانتباه هنا هو تركيز أكثرية الدراسات التجريبية التي أُجراها الباحثون في الأنثروبولوجيا الثقافية - على قلة عددها - على المجتمعات الغربية. وإذا كان الأنثروبولوجيون قد درسوا الصداقة على الاطلاق، فأنهم اختاروا التركيز على العلاقات الرسمية المتميزة بحضور الالتزامات المتبادلة الواضحة والمحددة مثل القرابة الطقوسية والتبادل أو العلاقات المبنية على العمل.
ثمة جانب آخر لافت هو استئثار العلاقات بين الذكور على اهتمام الدراسات الأنثروبولوجية - التي أُجريت النسبة الأكبر منها في مناطق أوروبا الجنوبية - على حساب العلاقات بين الإناث (بوايفين/ 1974) ، (غلمور/ 1975). لوقتٍ طويلٍ، شاع افتراض يُفيد أن النساء البالغات تحديدا يُشكلن علاقاتهن الاجتماعية الأكثر أهمية في داخل العائلة ومع الأقارب، في حين تؤلف الأشكال المختلفة للصداقة بين الرجال جزءًا مهمًا من الحياة العامة. وأدت هذه العوامل مجتمعةً دورًا في تحجيم الاهتمام البحثي بعلاقة الصداقة بين النساء باستثناء عددٍ من الدراسات الحديثة (كندي 1986، مثلًا).
يعني هذا، بسهولةٍ ويسرٍ، تعذر العثور على معلومات كافيةٍ عن معاني الصداقة في المجتمعات غير الصناعية. والاستثناء لذلك هو دراسة (ثوماس كيفر) المهمة عن الصداقة المتمأسسة والحرب في أوساط مجموعة (توسوغ) العرقية المُسلمة في منطقة جولو في الفلبين. إذ ينظرُ أفرادُ الجماعة إلى الغرباء وجميع الأشخاص الذين لا يرتبطون بهم بصلة قرابة بوصفهم أعداءً. في هذا السياق، تُعد الصداقة - التي يُقسمُ الأفراد على الحفاظ عليها رسميًا بالقرآن الكريم - أحد العوامل المحورية في تشكيل التحالفات بين الجماعات القرابية وبين الزعماء المحليين في المستوى الإقليمي.
هؤلاء قد يكونون أعداءً سابقين أو - في حالة الحنث بالقسم - أعداءً في المستقبل. تستمد الصداقة الرسمية في مجتمع (توسوغ) الفلبيني معناها من العداوة - فالأصدقاء حلفاء في مواجهة الأعداء المشتركين، غير أن دراسة (كيفر) ركزت مرةً أخرى على أنماط الصداقة الرسمية للغاية بين الذكور.
في الواقع، ما تزال أنماط الصداقة المتمأسسة والرسمية، والشراكات المبنية على التبادل والتعاملات التجارية، مثل علاقة الصداقة المعروفة بـ (tau soa) في جزيرة تيكوبيا في جنوب غرب محيط الباسفيك التي وصفها ريموند فيرث (1967)، تتصدر الاهتمام اليوم في دراسات الانثروبولوجيين الثقافيين. ومن المهم، في مستوى المقارنة بين - الثقافية (ويشمل ذلك المجتمعات الأكثر تقليدية)، دراسة الاضمحلال المزعوم لمكانة القرابة والأهمية المتنامية، ربما، لأهمية الصداقة.
 
موضوعات ومناهج:
حظيت أبعاد الصداقة المختلفة بمكانةٍ متميزةٍ في حقل البحث الأنثروبولوجي. إذ فرقَ (ارك ر. وولف/ 1966) بين “العلاقات العاطفية والأدواتية” التي تعوض نقصا من نوعٍ ما عند طرفيَ العلاقة، إلا أن هذه التسميات - العاطفية والنفعية - مُضللةٌ إلى حدٍ ما لانطوائهما كليهما على جانبٍ نفعي واضحٍ. حرص وولف في مقاربته على ربط الصداقة بالأشكال المجتمعية الأوسع: إذ تعاني المجتمعات نقائص وعيوبا مختلفة، تعمل أنواعٌ مختلفةٌ من الصداقة في الاستجابة لها. ويؤلف تصور وولف نقطة انطلاقٍ مفيدةٍ لإجراء المزيد من الدراسات التي وضعت الصداقة في إطارٍ نظري أوسع. وهي، بهذا الجانب، تختلف عن فكرة (روبرت بين) عن صداقةٍ أكثر عاطفيةً ومتجهة نحو الداخل وخاصة بالطبقة الوسطى.
نزعت مقاربة عالم الأنثروبولوجيا الاجتماعية (ديفيد ياكوبسن) للصداقة نحو التأكيد على الجانب الموقفي، فهو لم يهتم بالصداقة الدائمة وخصائصها، بل بـ”عملية التسمية ذاتها، أي بالمواقف التي يمنحُ فيها الشخص شخصا آخر لقب الصديق أو ينتزعه منه”(1975). في الواقع، قد تتغير علاقتا الصداقة والانتماء إلى مجموعة عرقية بناءً على الموقف. ويُمكن لدراسات الصداقة، بالتنسيق مع دراسات الهويَات الجماعية، أن تؤدي إلى نتائج مهمةٍ في حقل دراسات العلاقات بين - الإثنية. إذ يمكن إقامة علاقات الصداقة عبر الحدود الإثنية إلى جانب الارتباط عبر المصاهرة الذي يُساعد في نشوء التحالفات بين الجماعات الإثنية المختلفة. هناك الكثير من الأمثلة على العلاقات بين-الإثنية في الحكايات الفولكلورية الخاصة بالصداقة، منها قصة الصديقين من جماعتيَ (كبسغيز) و(ماساي) الإثنية في كينيا اللذين تبادلا العسل والسهام ولكنهما خدعا بعضهما بهذا الفعل (دونز 1971). أوضح الآن دونز أن موضوع الدخول في علاقة صداقة والتخلي عنها في المجتمعات الأفريقية يؤلف أحد الموضوعات الشائعة في السرديات. تتحدث إحدى القصص، مثلًا، عن صديقين أحدهما معاقٌ والآخر كفيفٌ قاتلا معًا في هجومٍ شنه الأعداء على قريتهم. فحمل الكفيف صديقه المُعاق على ظهره بينما كان الأخير يرشده. وسواء أكان فشل علاقة الصداقة أو مباهجها ومنافعها هو المحور الرئيس في هذه القصص، يؤلف فعل التبادل على الدوام محور العلاقات الموصوفة.
إن هذا التباين في الموضوعات في السرديات الأفريقية لهو خير دليل على الصراع بين الأعراف الاجتماعية والسلوكيات الفعلية. وهذا الاختلاف بين نظام القيمة والسلوك هو أحد جوانب الصداقة التي لم تُدرس باستفاضة وتفصيلٍ إلى الآن. 
ناقشت رينا (1959) مفهومين متوازيين للصداقة بين جماعتيَ الهنود واللادينو في غواتيمالا. إذ تعني مفردة (cuello) عند جماعة اللادينو الدخول في عدة علاقات وتحالفات قد تتغير بحسب اختلاف الظروف. وخلافا لهذه الرؤية، يعني مفهوم الصداقة للهنود الارتباط بعددٍ محدود من الأصدقاء الذين يتعرف عليهم الفرد في مرحلة المراهقة. وهذا المثال يُبين بوضوح أن الاختلاف في مفاهيم الصداقة قد يحول دون توثيق العلاقات بين أفراد الجماعات الإثنية المختلفة. إن إجراء الدراسات عن الاختلافات الثقافية وعلاقات الصداقة بين-الإثنية مستحيلة من دون الوقوف على معلومات وتوصيفات تفصيلية عن مفاهيم الصداقة بين الجماعات الإثنية.
يشغل موضوع الصداقة موقعًا مُهمًا في تحليل شبكة [العلاقات] المبكرة (بوت/ 1957). تبدو تحليلات الشبكة، في الواقع، أداةً بحثية مناسبةً عند دراسة العلاقات الاجتماعية المتمأسسة الضعيفة في المجتمعات المعقدة. والصداقة هي أحد المضامين المحتملة في علاقات اجتماعية مثل هذه مع ملاحظة اقتصار الدراسات البحثية حتى هذا الوقت على المجتمعات الصناعية الغربية عمومًا (الان/ 1989، فيشر/ 1982). ولهذا السبب، يتعين على تحليل شبكات الأصدقاء في المجتمعات “التقليدية” للغاية أن تكون مسبوقةً بدراسات تُحدد وتصف الشخص الذي يكتسب تسمية صديق والأنواع المختلفة لفئات الأصدقاء الشائعة في سياقٍ ثقافي مُحدد. وكما تَبين في أعلاه، لا يُمكن التسليم بالتطابق بين مفاهيم الأنثروبولوجيين عن الصداقة ومفاهيم الإخباريين. فمع تطور الخبرة وتراكم المعرفة بالمعاني والمفردات المقترنة بالصداقة، تتعزز أيضاً إمكانية تطبيق تحليل الشبكة وغيرها من المناهج الكمية في السياقات بين الإثنية. يُمكن الحصول على صورةٍ أكثر وضوحًا وتمايزًا لمفردة “الصداقة” الغامضة عند النظر في التداخل بين المشاركة في الحياة اليومية وتقييم التجارب الشخصية والدراسة المنهجية المنتظمة للصداقة.
 
العمل الميداني والصداقة:
ليست الصداقة موضوعًا مُهمًا في الدراسات والأبحاث وحسب، إنها علاقةٌ مهمةٌ كذلك في العمل الميداني. ومما يؤسف له قلة توثيق أوجه الصداقة بين الأنثروبولوجيين وأفراد الجماعات الذين يعيشون بينها لمددِ طويلةٍ في الغالب، على الرغم من أن هذه العلاقات هي على الأرجح تجارب شخصية مُهمة للغاية في أثناء العمل الميداني، وقد تُمثل في بعض الحالات شرطًا مُسبقًا لإنجاز العمل. والاستثناء لهذا الوضع هو الدراسات التي اجراها كل من جوديث (فريدمان هانسن/1976)، و(جو هندري /1992)، و(روبن أي. رينا/1959). جدير بالملاحظة أن علاقات الصداقة التي تشكلت في مسار العمل الميداني لم تُعامل بالأمانة المطلوبة ولم تُدرس بانتظام ومنهجيةٍ في حقل الأنثروبولوجيا حتى الوقت الحاضر. يحظى الأنثروبولوجيون في العادة بالعديد من الأصدقاء في عملهم الميداني وعند نشرهم لدراساتهم يكون لزامًا عليهم شكر جميع “الأصدقاء” الذين ما كان للدراسة أن تُنجز من دونهم. غير أن طبيعة هذه الصداقات وأهميتها للعمل الميداني يغيبان عن الوصف والتعليق في أكثرية الحالات. ولذا، ما يزال السؤال عن الكيفية التي تعامل بها الأنثروبولوجيون مع مفاهيم الصداقة غير المألوفة في المجتمعات التي درسوها قائمًا بلا إجابة. إن أكثرية الدراسات لا تُقدم شرحًا وافيًا أو واضحًا للمقصود بـ “الصداقة”، ولم يتحدث سوى القليل من الكُتاب عن إمكانية تسمية العلاقة بالإخباريين بـ “الصداقة” من منظور العامل في الحقل أو من وجهة الإخباريين المنتمين. وبالمثل، لم تُدرس إلى الآن الأشكال بين-الثقافية الأخرى من الصداقة-التي تُمثل الصداقة بين الأنثروبولوجيين والإخباريين أحد جوانبها. 
في أدبيات العمل الميداني، توصف الصداقة أحيانًا  من زاوية واحدةٍ محدودةٍ تجعل من الإخباريين أصدقاءً للعاملين في الميدان. وهذا يؤدي إلى معضلةٍ أخرى تتمخض عن مقاربة للصداقة نفعية للغاية وخادعة في العادة. يتطلب الحقل العلمي أن تستحصل المعلومات من الإخباريين أو أن “تحلبهم” مجازيًا. والباحث يحقق ذلك عبر إقامة علاقات صداقة معهم، وتبادل الثقة، وتقديم الهدايا والحديث معهم لساعات عن موضوعات تثير الشعور بالملل. لكن ماذا عن الإخباريين؟ هل هم أصدقاء أم موضوعات علمية في هذه الحالة؟ يُدرك الإخباريون في العادة إنهم يُستخدمون لتحقيق غايةٍ ما. ويرى بعض العاملين في الحقل أن الغايات العلمية تبرر الوسيلة، وإن استغلال الإخباريين لا يُمثل مشكلةً أخلاقيةً. لكنها كذلك للعديد من المعنيين بالعمل الميداني والبحثي (بواسفين/ 1985). 
في السياق ذاته، حذر مؤلفون آخرون من صداقة الإخباريين متذرعين باحتمالات بروز ما يُعرف بـ “صراع الأدوار”. إذ نصح جيمس ب.سبرادلي، مثلًا، زملاءه الأنثروبولوجيين بالامتناع عن إزعاج اصدقائهم بالحديث عن مهمتهم المُملة مُكررًا في الأثناء الأسئلة ذاتها عن بحثهم الدائم عن المعلومات والشروحات. لكنه لم يبدِ اعتراضا، فيما عدا اعتراضه على هذا الجانب، من الدخول في علاقات صداقة في مسار العمل الميداني.  
وقدمت (جوي هندلي/ 1992) وصفًا رائعًا للصداقة في العمل الميداني. إذ تحدثت بالتفصيل عن التغيرات التي شهدتها علاقتها التي دامت زهاء عقدين بصديقتها اليابانية. كما قارنت، هامشيًا على الأقل، حجم التطابق بين تصورات الفرد عن الشخص الذي يتخذه صديقًا له وكذلك التوقعات الخاصة بالكيفية التي يرتبط بها الأصدقاء في ما بينهم في بريطانيا واليابان. ذكرت (هندري) التي تنحدر من أصول ريفية أن التفاوت لا يتوافق مع الصداقة، إذ تُهيمن أوجه التشابه والمساواة على علاقتها بصديقتها اليابانية ساشيكو التي تنحدر من أصولٍ ريفيةٍ كذلك. ومع ذلك، فقد مضت حياتهنَ في مسارات مختلفةٍ فيما بعد بسبب الاختلاف بين ثقافتيَ البلدين. فضلاً عن التغيرات الفردية التي شهدتها علاقة الصداقة الناجمة عن التحولات في أدوراهن الحياتية من طالبات إلى أمهات مسؤولات عن أطفالٍ، كاد المشروع البحثي ذاته أن يتسبب في القضاء على هذه العلاقة. برزت الخلافات بين الصديقتين عندما بدأت (هندري) في دراسة أساليب التواصل في الـ (nakama) أو المجموعة المرجعية لصديقتها اليابانية. بالطبع، أشركت (هندري) صديقتها في مشروعها، ما أدى إلى مرور (ساشيكو) بمشكلة صراع دور مع أفراد المجموعة. ومع ذلك، فقد تمكنت (هندري) من الحصول على تبصرات بفضل هذا الصراع أفضل من أية صلات ربطتها بنساء يابانيات أخريات. وصفت (هندري) تجاربها الميدانية مُبينةً أنها أحد جوانب تقنية الملاحظة بالمشاركة المهمة- ومع أنها نجحت علميًا، إلا أنَ نجاحها ذاته كاد يُكلفها خسارة صديقتها العزيزة. وبداهةً، تحسن الوضع كثيرًا بين الصديقتين بعد مغادرة هندري لليابان ومرور وقتٍ كافٍ وتبادل الصديقتين لعددٍ من الرسائل التي حللتا فيها وتحدثتا عن تجربتهما المشتركة.
وبالمثل، يكشف المثال الخاص بجماعتيَ الهنود واللادينو في غواتيمالا أن الصداقة في العمل الميداني قد تؤدي إلى مشكلات سببها الجهل الأولي بالاختلافات الثقافية بين تصورات الجماعات البشرية عن هذه العلاقة. إذ يُلاحظ أن الهنود قد وضعوا تعريفًا واضحًا للتوقعات المقترنة بالصداقة مُتمثلةً في الحصرية والخصوصية. وابتغاء شرح هذا الجانب، ذكر الأنثروبولوجي روبن أي رينا أن الإخباريين الذين تعامل معهم وكانوا بمنزلة أصدقائه قرروا قطع علاقتهم به حالما تواصل مع إخباريين آخرين. وحدث الأمر ذاته مع زوجته الأنثروبولوجية. وهذا يعني أنهما لم يفياه بمعايير الصداقة كما يتصورها الهنود الغواتيماليون. ولم تُحل المشكلة الا بعد أن قدم الأنثروبولوجيون شروحات تفصيلية تُبين موجبات حديثهم إلى أكثر من شخص (رينا/ 1959).
ويُمثل صراع الأدوار أحد الموضوعات الرئيسة التي ناقشها الأنثروبولوجيون في دراساتهم عن علاقات الصداقة التي تشكلت وتوطدت في سياق العمل الميداني. كان صراع الأدوار، مثلًا، المحور الرئيس في دراسة جوديث (فريدمان هانسن/ 1976) عن الصداقة.  وليس هذا مفاجئا في ضوء ما تسببه علاقات الصداقة من صراعات فيما يتصل بالولاء والملكية وتوقعات الدور لا في المواقع التي يعمل فيها الباحثون الأنثروبولوجيون وحسب، بل في مواقع العمل جميعا. وبداهةً، يؤدي الأنثروبولوجيون أدوارا مختلفة في داخل عائلاتهم وشركاتهم ومؤسساتهم الأكاديمية. وبذا، ليست أنماط الصداقة المتقاطعة والمتداخلة حكرا على مواقع العمل الميداني لوحدها. الفرق بينهما هو أن المشكلة في حالة العمل الميداني تكون أكثر وضوحا ويدركها المعنيون بها بوعي أعمق. ويستلزم التكيف مع هذه الصراعات المزيد من الوقت والصبر وأيضًا فهما أعمق لمفاهيم الثقافات الأخرى وقيمها.