(الوقوف على ساق واحدة) رواية حسن كريم عاتي التي صدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت، بـ168 صفحة، القطع المتوسط، سبق أن صدرت له روايتان ومجموعتان من القصص القصيرة إلى جانب ثلاثة كتب دراسات.
يروي فيها حكاية الاهوار جنوب العراق ومعاناة أهلها تحت حكم الاقطاع والظلم الواقع على جمهرة الفقراء من الفلاحين عبر رسم واقع عائلة، تتكون من الأب خشين وزوجته غرنوكه وولده خزعل وطفلته الرضيعة فتنة، وخشين من رجال الاقطاعي الذي يسيطر على مساحات شاسعة من الاراضي في منطقة الاهوار من دون أن يحدد المكان، تحت حكم المالك الاقطاعي، والذي يدعونه المحفوظ، خشين من حاشية المحفوظ، الذي لا يعرف متى يناله الرضا أو ينال الزعل من المحفوظ لاسباب يعرفها ولا يعرفها، (كان على يقين أنهم سيعاقبونه سواء أحسن الصنع أم أساء) ص13 وما يترتب عليه من مهانة وضرب وابعاد، كما يفعل مع المساكين من الفلاحين الذين وضعه المحفوظ مراقبا عليهم، وشدته مع عصاه الغليظة وجعلته مكروها من أبناء جلدته، الا أن خشين ليس له مكان الا في خدمة المحفوظ وكسب حظوته أن رضى أو ابى، يسارع في الخدمة وإظهار الولاء حتى وهو يدرك انها طريق الخطأ، فلا مصير له إلا الخضوع لهذا المحفوظ أو ذاك حتى يستطيع العيش وعائلته، وهي النقطة المهمة التي اراد الروائي تأكيدها عن حالة الفرد في مجتمع الارياف والهور وهيمنة الظلم والقهر والاستبداد.
الرواية تتحدث عن فترة زمنية سبقت التحول في شكل الحكم في العراق عندما انقلب ضباط من الجيش العراقي وقادوا انقلابا أطاح بالنظام الملكي، وأصبح العراق جمهورية، أنه يتحدث عن مجتمع الريف تحت حكم الاقطاع، وفي ظل سلطة ترعى مصالح الاقطاعيين على حساب جمهرة الفلاحين وتحت ظل المحتل الأجنبي، الذي رمز له بما يعرفه العراقيون (الصاحب)، ووظف الحكاية عن عائلة (خشين) ليسرد لنا تفاصيل الظلم والقهر الواقع على طبقة الفلاحين في تلك الفترة الزمنية.
كتبت الرواية بثلاثة فصول، سمى كل فصل منصبة، والمنصبة هي واحدة من الأثافي الثلاث التي يجلس عليها القدر وقسم كل منصبة من الثلاثة إلى أجزاء متساوية، منحها أرقاماً لكل واحدة تسعة أرقام، أي 27 جزءاً لأقسام الرواية الثلاثة، في الفصل الاول يحدد متن الحكاية، في قسوة المحفوظ على خشين لاجل رضوخ زوجته غرنوكه لشهواته عندما ترفض، واكتشاف خزعل اغتصاب المحفوظ لأمه في كوخهم، وإن زعل المحفوظ على ابيه لغرض الضغط حين ترفض غرنوكه معاشرته (فأرسل إليها من تخبرها: الا
عنوان الرواية.. ورموزه
حسن كريم عاتي من المهتمين بالرموز والشفرات في الكتابة السردية وله كتابات في ذلك، وله كتاب (الرمز في الخطاب الادبي)، لهذا فان العتبة (العنوان) أو (ثريا النص) كما سماها الراحل محمود عبد الوهاب، له صلة مباشرة بالمتن الحكائي الذي اراد أن يوصله لنا، فالوقوف على ساق واحدة، ليس لأن زوجة خشين اسمها غرنوكه، انما تعني (تطلب توازن الجسم أثناء الوقوف على ساق واحدة مجهودا من البعض، واكتشف باحثون في جامعة كيوتو اليابانية أن القدرة على الوقوف على رجل واحدة تدل على سلامة وصحة العقل)، (حيث ترتبط القدرة على الوقوف على ساق واحدة بزيادة مستويات النشاط البدني وتقليل مخاطر السقوط وبجودة الحياة وطولها، فإن الوقوف على ساق واحد مؤشر صحي يمكن أن يحسن من اللياقة البدنية)، دمج بين اسم بطلة الرواية غرنوكه وبين صحة الموقف في التمرد والثورة ضد حكم الاقطاع، (غرنوق، طائر مائي أبيض طويل الساق، جميل المنظر له قنزعة ذهبية اللون، وهو نوع من الكراكي (امرأة غرانق وغرانقة) ممتلئة جميلة ناعمة - شاب غرانق/ فتاة غرانق: حسن جميل) معجم اللغة العربية المعاصرة . على الرغم من أنه حاول أن يجعل من القرية بأشخاصها أبطال قصته لأنها الحياة التي يتحدث عنها، وهو ما يشير إلى أن القدر الموضوع على الاثافي يأخذ مساره من الغليان للوصول إلى التمرد والثورة، التمرد البديل عن الذل والمهانة التي كان المحفوظ وحاشيته يذيقونها للفلاحين، وأن بوادر الثورة نمت في هذه الاجواء ضد الاقطاع والهيمنة الاجنبية، لهذا أطال في الوصف لمعاناة الفلاحين ومجتمعهم عموما، وقليلا ما كان يتحدث عن اسرار جمال الاهوار وروعة الطبيعة التي لم ينجُ كاتب سبقه من الحديث عن الأهوار وكتب في اسرار جمالها، ومن المصادفات أن مونيكا نبيل عزيز الكاتبة المصرية أصدرت روايتها (الوقوف على قدم واحدة) تروي فيها عن: لاجئين، أقليات، عابرو جنس، أصحاب بشرة سوداء، ضحايا عنف وحروب وتعذيب واغتصاب. لوحة قاسية لمجهولين .. (القاهرة. القدس العربي) وكذلك صدر للشاعر أمل دنقل ديوان شعر (الوقوف على قدم واحدة) القاهرة. وكلاهما يتحدثان عن مأساة الإنسان في هذا العالم الظالم، ولا سبيل الا الوقوف على قدم أو ساق واحدة الموقف السليم، ليأخذ العقل والإدراك مساره لإتمام التمرد والثورة، للوصول إلى الحياة السعيدة.
ولأجل أن يضعنا في الصورة كتب سرده بتمرس في اللهجة الجنوبية بلغة شعرية انسيابية تخللتها (الابوذيات) التي تشتهر بها المنطقة للتعبير عن الحزن والالم، لايضاح حالة الحزن المكبوت، والظلم الذي يخرج آهات بين فترة وأخرى، وربط بين ممارسة الجنس لزوجة خشين والمحفوظ ومعرفة ابنه خزعل لهذا الانتهاك الذي حرّك في داخله روح التمرد والثورة، وجاء الوعي بالظلم ذاتيا لشعوره بالعار الذي لا يستطيع من الوقوف امامه، ولم يأته طبقيا كما كان يرى في عدم التوزيع العادل للانتاج الزراعي، عندما كان يناقش اباه عن ظلم تقسيم المحاصيل بين الفلاحين والحوشية ونصيب المحفوظ، لم يكن بالوعي للقيام بالفعل الثوري أو التمرد حول هذا العامل الاساس في الظلم، وعندما بدأ يمارس الجنس مع زوجة المحفوظ الاخيرة وهي تشبه ما سرده سابقاً (القاص فهد الاسدي في احدى قصصه) الا أن العبد الذي دعته زوجة الاقطاعي في قصة الاسدي كان رضوخا لزوجة الاقطاعي وخنوعاً لاوامر سيدته، وشيء لا يصدق له، بينما ممارسة خزعل للجنس مع زوجة المحفوظ، كان بدايات التمرد لأخذ الثأر من فعلة الاقطاعي في اغتصاب أمه، حتى الوصول لرفع السلاح وقتل المحفوظ.
تنمو الرواية مع نمو الحدث الذي يوصل ما شاهده خزعل من اغتصاب أمه وابعاده عن كوخهم من قبل حراس المحفوظ، وعلى الرغم من تأكيده على الحدث الذي سيصيغ نهاية الرواية الا أنه كتب في معاناة الفلاحين بما يفي للوصول إلى التمرد والثورة وان أحالها إلى خزعل وقبلها تمرد عشيرة الصهبان كعارض ضمن السياق ولكنها تعطي العلامة في بدايات غليان القدر على الاثافي.
مسيرة الرواية...
أكثر الراوي الكتابة عن العادات والطقوس الاهوارية، وعلى الرغم من أهميتها لمعرفة حياة المغبونين، الا أنها بدت في مواضع أقرب للتقرير أو مقال توضيحي، مهملا الحديث عن شخصية خزعل على اهميته في الرواية، فلم يوصل لنا عمره او مقدرته أو أي شيء ينبئنا عن شخصيته لانه سيأخذ المبادرة في إعلان التمرد والثورة سوى فكرة الثأر، ولكن على الرغم من ذلك تبقى الرواية ذات حبكة وقدرة سردية عالية ورائعة مع تمكن في تطويع اللغة وجرها إلى المبنى الحكائي بسهولة ويسر، وإذا أمعنا النظر في اصل الحكاية فانه اختصرها في عائلة خشين لإيضاح واقع الحياة في الاهوار والظلم الذي عاشه المجتمع الفلاحي في ظل الاقطاع والهيمنة الاجنبية، وهي المقطع الذي وضعه تحت المجهر لكشف واقع الحياة في ريف الاهوار. أن رواية (الوقوف على ساق واحدة) رواية مكرسة لكشف مدى الظلم والقهر الذي عاشه الفلاحون تحت ظل الاقطاع، موظفا أدواته السردية كافة بصيغ شعرية للتعبير عن مجتمع البؤساء، متخذا من المنولوج والرمز والشفرات والحوار المكثف وتيار الوعي والحلمية، الابعاد التي توصله لربط القضية الفردية بالقضية الاجتماعية لطبقة المسحوقين، وشكل القهر والذل الذي كان يعيشه الفلاح، وكأنها رد عمن يقول عن تلك الفترة (الزمن الجميل)، فكيف يكون جميلاً وقطاع واسع بين الثلث إلى نصف المجتمع، يعيش الظلم والقهر والحرمان من أبسط حقوق الانسان في مجتمعه؟