حزيران/يونيو 13
   
رولد دال
 في الأسفل لم يكن هناك سوى بحر واسع من أمواج السحاب الأبيض. وفي الأعلى كانت الشمس هي الأخرى لا يعكر صفاءها شيٌ عندما ينظر إليها من قُمرة طائرته.
كان محلقا بالمقاتلة (سبتفاير) ويده اليمنى تمسك بعصا التحكم، بينما ساقه اليسرى وحدها تحرك عتلة الدفّة بسهولة. الطائرة تحلق جيدًا، يعرف ما كان يفعل معتقدا أن كل شيء سينتهي على خير، مخاطبا نفسه؛ نعم أنا بخير وأعرف طريقي إلى أرض الوطن. سأكون هناك خلال نصف ساعة. عندما أصل، سأهبط على المدرج وأطفئ المحرك وأنادي: هلّا ساعدتموني على الخروج من قمرتي؟ سأجعل صوتي عاديًا وطبيعيًا دون أن يشعر أحد. ثم أقول: هل من يساعدني على الخروج؛ لا أستطيع ذلك بمفردي لأنني فقدت ساقي. سيضحكون جميعًا ويعتقدون أنني أمزح، حسنًا، تعالوا وانظروا، إن كنتُ كاذبا. سوف يرتقي (يوركي) الجناح وينظر إلى الداخل، قَد يتقيأ بسبب الدماء والفوضى. سأضحك وأقول له؛ لخاطر الله ساعدني على الخروج.
ألقى الطيار ال(سبتفاير) نظرة أخرى إلى ساقه اليمنى التي لم تبقِ إطلاقة مقاومة الطائرات منها غير جذمور فخذه، فشعر وكأنه يرى شيئا ليس له ولا يشعر بألمه مثلما ينظر شخص إلى قطة ميتة على الأريكة. شعر أنه بخير حقًا، وزال عنه الخوف قائلا: لن أزعج نفسي بالاتصال في طلب إسعاف نقل الدم؛ أمر لا ضرورة له. وحين أهبط أبقى جالسا في قمرتي بكل هدوء وأقول؛ فليأتِ أحدكم يا رفاق الجناح ويساعدني على النزول.. سيكون ذلك مضحكا. سأضحك معهم قليلا ويضنون أنني أمزح معهم كالعادة. وعندما يرى (يوركي)  ما حدث لساقي سيتقيأ حتما وأقول له :ألم تصلح سيارتي بعد؟، وبعد أن أخرج سأقدم تقريرا بما حصل وأتوجه بعد ذلك إلى لندن ومعي نصف زجاجة ويسكي هدية مني إلى (بلوِي). سنجلس معا في غرفتها ونمزج شرابنا من صنبور الماء. لن أقول الكثير حتى يحين وقت النوم، ثم سأقول لها: (بلوي) لدي مفاجأة لكِ؛ فقدت ساقي اليوم، لكن دعينا من هذا الموضوع طالما لا أشعر بألمٍ. سنذهب بالسيارة إلى أي مكان نشاء. لطالما كرهت التمشي، باستثناء السير في سوق (الصفافير) وركوب (الربل) في بغداد. يمكنني العودة إلى المنزل وتقطيع الحطب، لكن رأس الفأس يفلت دائمًا. ماء الحمام ساخن يجعل المقبض ينتفخ؛ وهي أفضل طريقة لتثبيته. لقد قطعت الكثير من الخشب آخر مرة عدت فيها إلى المنزل حين غمست الفأس في ماء الحَمام ...
ها هو يرى الآن انعكاس الشمس على مقدمة طائرته ومساميرها، فعاد من عالم الذكريات إلى واقع طائرته. لقد أدرك أنه لم يعد كما كان؛ فهو يشعر بالغثيان والدوار وراحت رأسه تتدلى على صدره لأن رقبته فقدت القدرة على حملها، لكنه ما يزال يعي أن أصابع ذراعه اليمنى تمسك بعصا التحكم في طائرته.
وجال في خاطره أنه سرعان ما يفقد وعيه.
نظر إلى عداد ارتفاع الطائرة. ولكي يختبر نفسه حاول أن يقرأ الأرقام؛ 21 ألف قدم ثم ماذا؟ أصبح قرص العداد غير واضح ولم يتمكن حتى من رؤية المؤشر. لم يتبق من وعيه غير فرصة ثوان ليقفز بالمظلة. بسرعة ولهفة، حاول أن يسحب غطاء القمرة بيده اليسرى ولم يستطع. وفي ثانية واحدة رفع يده اليمنى عن عصا التحكم وتمكن بكلتا يديه من دفع الغطاء إلى الخلف. يبدو أن اندفاع الهواء البارد على وجهه قد ساعده في هذا ومنحه لحظة صفاء ذهن كبيرة وأصبح بإمكانه أن يتصرف بدقة واتزان؛ هذا ما يحدث غالبا للطيارين المَهرة. استنشق طويلا من قناع الأوكسجين، ثم نظر نحو الأسفل ولم يرَ سوى بحر من السحاب الأبيض؛ لا شك أنه فقد تحديد المكان. وخمن؛ لابد أنني فوق القنال الإنكليزي ومن المؤكد سقوطي في المياه. أخذ نفسا عميقا وخلع خوذته وفك جميع أحزمته ودفع بعصا التحكم إلى أقصى اليسار فانقلبت الطائرة على ظهرها وأفلت الطيار نفسه. وبينما هو يسقط فتح عينيه ولابد له أن يسحب حبل المظلة قبل أن يُغمى عليه. رأى الشمس من جهة ومن الجهة الأخر رأى بياض الغيوم. وبينما هو يسقط متشقلبا كان يرى الغيوم البيض والشمس يطاردان بعضهما البعض بسرعة كبيرة في دائرة صغيرة؛ يرى الشمس تقترب للحظة ثم في لحظة خاطفة أخرى لا يرى من الدنيا غير بياض شاسع لا يُبان منه شيء. ومن شدة بياضه يبدو أحيانا في منتهى السواد. هكذا راح يرى الدنيا تتقلب بين سواد وبياض. يمكث البياض طويلا، لكن السواد سرعان ما يتلاشى. لقد اعتاد على إغلاق عينيه خلال الفترات البيضاء، والاستيقاظ في الوقت المناسب لرؤية العالم عندما يحل السواد. كان اللون الأسود سريعًا جدًا. في بعض الأحيان مجرد وميض، وميض من البرق الأسود. كان الأبيض بطيئًا وفي بطئه يغفو دائما.
لا يعلم كم من الوقت مضى عليه عندما كان غافيا يغشاه اللون الأبيض، مد يده ولمس شيئا. أخذه بين أصابعه. ثم فتح عينيه ببطء، ونظر إلى يده فإذا هي تمسك بشيء أبيض. هذه ملاءة بيضاء يستطيع رؤية غرزات حاشيتها. أغمض عينيه وفتحهما بسرعة؛ رأى غرفة وسرير يرقد عليه. رأى الجدران الرمادية والباب والستائر الخضر وبعض الورود على الطاولة بجانب سريره.
ثم رأى وعاء غسيل مطلي بالمينا على الطاولة بالقرب من الورود وزجاجة دواء.
هذا يعني أنني في المستشفى. لكنه لم يستطع أن يتذكر أي شيء. استلقى على وسادته وهو ينظر إلى السقف ويتساءل عما حدث. كان يحدق في اللون الرمادي الناعم للسقف الذي كان نظيفًا للغاية، ثم فجأة رأى ذبابة. منظر هذه البقعة السوداء الصغيرة على بحر رمادي، حفزت ذاكرته، وفي ثانية واحدة فقط، تذكر كل شيء. لقد تذكر طائرته وتذكر مقياس الارتفاع؛ واحد وعشرين ألف قدم. لقد تذكر كيف دفع غطاء القمرة للخلف بكلتا يديه وتذكر هبوطه بالمظلة وتذكر ساقه.
بدا الأمر على ما يرام الآن. نظر إلى نهاية السرير، ولكن لم يستطع أن يخمن. دس إحدى يديه تحت أغطية السرير وتلمس نفسه فوجد ركبته الأولى. ولما تلمس الأخرى، شعر بها لينة مغطاة بالضماد.
ثُمَ فُتحت الباب ودخلت الممرضة:
" مرحبا، ها قد استيقظتَ أخيرا، حمداً لله على سلامتك."
لم تكن جميلة المظهر، لكنها ضخمة ونظيفة، شقراء بين الثلاثين والأربعين من عمرها.
" أين أنا؟'
" أنت محظوظ؛ هبطت بك المظلة في غابة قرب من الشاطئ. أنت في برايتون الآن. أحضروك قبل يومين وتم علاجك. ها أنت بخير."
" فقدت ساقي!"
" لا يهم"، "سنحضر لك ساقًا بديلة. لا عليك غير أن ترتاح، سيراك الطبيب بعد ساعة تقريبًا."
أخذت وعاء المينا وقارورة الدواء وخرجت.
لكنه لم ينم. أراد أن يبقى مفتوح العينين لأنه كان خائفا إن أغمضهما ربما يختفي كل ما يراه.  هكذا بقي مستلقيا يحملق في السقف حيث الذبابة لا تزال تسرع نحو الأمام ثم تتوقف، بعدها تطن وتدور حول نفسها بجنون وتطير ثم تحط في المكان نفسه على السقف وتسرع من جديد. راقبها طويلا لدرجة أنها بعد فترة لم تعد ذبابة، بل مجرد بقعة سوداء على بحر رمادي عندما فتحت الممرضة الباب، ووقفت جانبًا ليدخل الطبيب؛ برتبة رائد، يحمل أنواطا. كان أصلعًا وصغير الحجم، لكن ذو وجه مرح وعينان وديعتان.
قال: " جيد، جيد ها قد استيقظتَ أخيرًا. كيف تشعر الآن؟"
" بخير."
" نعم ستتعافى وتقف على قدميك في أقرب وقت."
 أخذ الطبيب معصمه ليتحسس نبضه وقال:
"بالمناسبة، البعض من رفاق سربك اتصلوا وسألوا عنك، أرادوا زيارتك، قلتُ إنك بخير ولابد لهم من الانتظار ليوم أو يومين. الآن، لا عليك غير أن ترتاح. ألم تحصل على شيء للقراءة؟" نظر إلى الطاولة التي تحتوي على الورود وأردف قائلا:" حسنًا، ستلبي الممرضة جميع طلباتك." وبهذا خرج ملوحا تتبعه الممرضة الضخمة.
 بعد أن خرجا، استلقى ونظر إلى السقف مرة أخرى. كانت الذبابة لا تزال هناك، وبينما كان يراقبها سمع هديراً بعيداً لإحدى الطائرات. ركزَ مسامعه وتساءل لعله يميز نوع الطائرة من صوت محركها، لكنه هز رأسه بقوة من هول المفاجأة. كيف لا يمكن لطيار مثله ألا يعرف الطائرة الألمانية ج.ي88.
  تأكد له تمامًا أنها ج.ي88، لكن أين صافرات الإنذار وأين مقاومة الطائرات؟ لا شك أن هذا الطيار الألماني جريء بما يكفي ليحلق فوق برايتون نهارا. وسرعان ما تلاشى صوتها بعيدا. ثم جاءت طائرة أخرى، بعيدة أيضا، بهدير المحرك نفسه وذبذباته وليس ثمة خطأ في تمييزه؛ كان يسمع مثل هذا الهدير باستمرار في سماء المعركة.
أصبح في حيرة ومد يده وضغط على جرس المنضدة. سمع صوت خطوات في الممر ودخلت الممرضة.
" أيتها الممرضة، ما هذا الذي أسمعه من هدير الطائرات؟
" حقيقةً لا أعرف ولم أسمع صوتها. ربما تكون طائرات مقاتلة أو قاصفات في طريق عودتها من فرنسا، لكن لِمَ تسأل، ما الأمر؟"
" لكنني متأكد من أنهما قاصفتان ألمانيتان طراز ج.ي88 أعرفهما من صوت محركيهما، ما الذي جاء بهما في سمائنا.
اقتربت الممرضة وراحت ترتب له أذيال أغطية سريره.
" رباه! من أين تأتي بمثل هذه التخيلات؟ لا تقلِق نفسك بمثل هذه الأمور، أتريد أن أجلب شيئا للقراءة؟"
"كلا، شكرا"
طبطبت على وسادته وأزاحت بأصابعها إلى وراء ما انسدلَ من خصلات شَعره على الجبين.
" أتدري.. لم يعد باستطاعة الطائرات الألمانية اختراق أجوائنا.؟
"أيمكنني الحصول على سيجارة؟"
" لِمَ لا؟ بالتأكيد."
خرجت وعادت بعد برهة ومعها علبة سجاير وعلبة كبريت. ناولته سيجارة وضعها في فمه فأشعلتها له.
" إن احتجتَ شيئا آخر اقرع الجرس." وخرجت.
ذات مساء آخر سمعَ هديراً بعيداً لطائرة أخرى، ومع ذلك عرف، أنها تحلق سريعا بمحرك واحد. لم تكن طراز(سبتفاير) ولا(هوريكان) البريطانيتين، ولا أية طائرة أمريكية؛ الطائرات الأمريكية ذات هدير عال. هذا ما أقلقه كثيرا، وفكرَ: ربما بسبب إصابتي تنتابني مثل هذه التصورات، ببساطة لا أدري بِمَ أفكر.
في ذلك المساء، جاءت الممرضة ومعها وعاء من الماء الساخن وبدأت في غسله.
 قالت: " حسنا؛ آمل ألا تعتقد أننا نتعرض للقصف". كانت قد خلعت قميص بيجامته وكانت تغسل ذراعه اليمنى بقطعة من الشاش القطني. لم يرد عليها
شطفت قطعة الشاش، ووضعت مزيدا من الصابون، وبدأت في غسل صدره.
قالت: "أنت تبدو بخير هذا المساء. أجروا لك عملية جراحية بمجرد وصولك. قاموا بعمل رائع وستكون بخير."
وأضافت: " أخي طيار قاصفة في سلاح الجو الملكي البريطاني."
فقال لها:" سبق لي وأن درستُ في احدى مدارس برايتون."
نظرت للأعلى بسرعة وقالت، "حسنًا، هذا جيد. لا شكَ أنك تعرف بعض الأشخاص في المدينة."
 "نعم، أعرف القليل."
انتهت من الغسيل وأعادت غطاء السرير وتركت ساقه اليسرى مكشوفة بينما غطت جذمور ساقه اليمنى. وخلعت له بجامته بسهولة مادام الرجل بساق واحدة. وبدأت بمسح ساقه اليسرى وبقية جسمه بالشاش الطبي. هذه أول مرة يجرى استحمامه على سرير وقد شعر بالحرج. كانت قد وضعت منشفة تحت ساقه اليسرى وباشرت بغسل قدمه وقالت،" بئس هذا الصابون لا يكاد أن يتحول الى رغوة بسهولة."
" طبعا لا يوجد صابون جيد الآن خصوصا إذا كان الماء مالحا." وهنا تذكر شيئا؛ تذكر استحمامه في حمام مدرسة برايتون ذو الأرضية الحجرية الطويلة؛ يحتوي على أربع حمامات متجاورة. وتذكر كيف كان الماء نقيا للغاية بحيث كان عليك أن تشطف كثيرا لإزالة رغوة الصابون، كانت الرغوة تطفو على سطح الماء، بحيث لا يمكنك رؤية ساقيك تحتها. وتذكر حين كانوا يعطونهم أقراص الكالسيوم لأن طبيب المدرسة يقول إن الماء العذب مضر للأسنان.
" لكن الماء في برايتون ليس ...."
لم يكمل الجملة؛ ثمة ذكرى مرت في باله. ذكرى ليس من اللياقة أن يقولها بصراحة لممرضة.
رفعت بصرها نحوه وقالت،" ما به ماء برايتون؟"
" لا شيء كنت احلم."
شطفت الشاش الطبي، ومسحت الصابون عن ساقه وجففته بالمنشفة.
وقال، " يشعرني هذا الاستحمام بتحسن،" كان يتحسس وجهه بيده" بي حاجة إلى حلاقة."
 " سيتم لك هذا غدا"،" ربما تستطيع ذلك بنفسك."
في تلك الليلة لم يستطع النوم؛ استلقى يفكر فقط في طائرات ج. يو 88 وقساوة الماء. قال في نفسه: " لا شك أنها ج. يو88 ومع ذلك، هذا غير ممكن، كيف للطائرات الألمانية أن تحلق على ارتفاع مسموع في وضح النهار. هذا ما حصل، ولكنه مستحيل. ربما أنا مريض وأهذي." ظل مستيقظًا لفترة طويلة وهو يفكر في هذا، وبمجرد أن جلس على السرير ، حتى قال بصوت عالٍ، "سأثبت أنني لست مجنونًا. سأفصح عما في ذهني من عُقَدٍ. سأتحدث عما يجب فعله بألمانيا بعد الحرب."، لكن قبل أن يتاح له الوقت للبدء، كان نائماً.."، لكنه سرعان ما نام.
استيقظ عند أول إشراقة صباح من خلال فجوات الستائر. كانت الغرفة لا تزال مظلمة، لكنه عرف أن الوقت نهار. كان مستلقيًا ينظر إلى الضوء الرمادي الذي كان يظهر من خلال شق الستارة، و تذكر اليوم السابق و تذكر يونكرز 88 ملوحة الماء والممرضة اللطيفة الكبيرة والطبيب اللطيف، والآن تجذرت في تربة عقله بذرة شك راح تنمو.
جال بصره في أنحاء الغرفة، كانت الممرضة قد أخرجت الورود من الغرفة، لم يعد شيئا على المنضدة غير سجائر وعلبة ثقاب ومنفضة. كانت الغرفة عارية. لم تعد ودودة دافئة، بل باردة وفارغة ذات هدوء مريب.
ببطء، نمت بذرة شكوكه، ومنها تفرع الخوف، خوف يتأرجح بين الشك والحذر؛ هذا النوع من الخوف الذي يشعر به المرء ليس لأنه خائف، بل لأنه مرتاب. وسرعان ما تحول شكه وخوفه إلى غضب واستياء. ولما لمس جبهته وجدها مبتلة بالعرق. عرف حينها أنه لابد أن يجد طريقة ما ليثبت لنفسه إن كان على صواب أم خطأ. رفع بصره وحملق مرة أخرى بالنافذة التي أمامه بستائرها الخضر على مسافة أربعة أمتار تماما. لابدّ أن يصل إليها ويلقي نظرة على الخارج. أصبحت النافذة هاجسه ولم يعد يفكر بشيء غيرها. ولكن ماذا عن ساقه المبتورة؟ مد يده تحت الغطاء وتلمس ضمادها. حسنا، لكن مغادرة سريره ليس سهلا.
جلس وأزاح الغطاء جانباً ووضع ساقه اليسرى على الأرض وانحنى ببطء وحذر حتى لامست يداه السجادة. شعر بألم ساقه المبتورة سميكة الضماد وأراد أن ينهار، ويستلقي، لكنه أصرَّ على الاستمرار. زحف معتمدا على ذراعيه وساقه اليسرى نحو النافذة، لكن بحركته هذه كانت ساقه المضمدة تلامس الأرض وتسبب له وخزا مؤلما؛ مع ذلك واصلَ زحفه. وحين وصل، مد وضع يديه واحدة تلو الأخرى على عتبة النافذة ورفع نفسه ببطء حتى وقف على ساق واحدة. أزاح الستائر جانبًا بسرعة ونظر إلى الخارج.
رأى منزلاً صغيراً ذو سقف من قرميد رمادي عند زقاق ضيق، يقع خلفه مباشرة حقل محروث. لم تكن الحديقة الأمامية مرتبة، كان ينظر إلى شجيرات سياجها الذي يفصلها عن الزقاق عندما جذبت أنظاره لافتة خشبية مثبتة على وتد قصير، ولأن الشجيرات لم تشذب لفترة طويلة، فقد أحاطت باللافتة من كل جانب. ثمة شيء مكتوب عليها بالطلاء الأبيض. أسند رأسه على زجاج النافذة محاولاً قراءتها. الحرف الأول واضح جدا، والثاني والثالث وهكذا تمكن من رؤية الحروف واحدا تلو الآخر.  ثلاث كلمات فرنسية قرأها ببطء: ((Garde au chien (احترس من الكلب).
تسمّرَ واقفًا على ساق واحدة، يتشبث بحافة النافذة، محدقًا في اللافتة وفي كلماتها البيض. للحظة لم يستطع التفكير في أي شيء على الإطلاق مكررا قراءة اللافتة مع نفسه. بدأ يدرك مغزى مايجري حوله. نظر إلى البيت وإلى الحقل المحروث. نظر إلى الحديقة الصغيرة وما خلف البيت من مرج أخضر. وقال: " إذن هذه فرنسا". أنا في فرنسا.
أصبح نبض ساقه المبتورة مؤلما كما لو أن شخصًا ما يضربها وازداد الألم لدرجة أنه كاد يفقد توازنه ويسقط فاضطر إلى الزحف عائداً إلى السرير. سحب الغطاء فوق نفسه واستلقى متعبا ولم يستطع التفكير في أي شيء إطلاقا باستثناء اللافتة.
لقد مر بعض الوقت قبل أن تأتي الممرضة. جاءت تحمل وعاء ماء ساخن وقالت: "صباح الخير، كيف حالك اليوم؟"
"صباح الخير أيتها الممرضة."
كان ألم ساقه شديدا، لكنه لم يشكُ لها، بل راح يتفحصها بعناية وهي مشغولة بتجهيز أدوات الغسيل؛ شعرها سرح طويل وبدا وجهها لطيفًا رغم ضخامتها. ولكن ثمة شيء مقلق في عينيها الحادتين؛ يتحركان بسرعة ،لا يكادا يستقرّان لحظة على شيء ويختلفان تماما عن كلامها المهذب معه.
"هل نمت جيدا؟'
نعم!'.
"حسنا." ثم وهي تغسل ذراعه قالت:
" سيزورك ضابط من قيادة القوة الجوية بعد الإفطار. يريد تقريرًا عمّا حدث لك؛ كيف تم إسقاطك وتفاصيل أخرى من هذا القبيل. لا تقلق؛ لن أدعه يمكث معك طويلا."
لم يرد عليها. أنهت غسله وأعطته مسحوق وفرشاة أسنان، نظف أسنانه وتغرغر، وبصق في الوعاء."
بعد ذلك أحضرت له وجبة الإفطار، لكن لم يعد لديه رغبة في أي شيء غير أن يستلقي ويفكر بما حدث. جملة واحدة راحت تدور في رأسه؛ جملة (جوني) ضابط استخبارات السرب التي كان يرددها يوميا على مسامع الطيارين قبل إقلاعهم. كأنه الآن يرى (جوني)، متكئًا على عنابر الطائرات، غليونه في يده، وهو يقول: "إن أُسر أحدكم، لا يعطي غير اسمه ورتبته ورقمه فقط لا غير."
"تفضل،" قالت وهي تضع وعاء في الطعام حضنه. " أحضرت لك بيضة، أتستطيع أن تأكل؟"
" نعم ".
وقفت بجانب السرير وقالت، "أتشعر بخير؟'
" نعم ".
"جيد، أتريد بيضة أخرى؟"
"هذا يكفي."
"حسنًا، فقط اقرع الجرس إن احتجت شيئا." وخرجت.
ما أن أنهى طعامه حتى جاءت الممرضة مرة أخرى.
قالت له، "وصل قائد السرب الطيار روبرتس. أخبرته ألا يمكث معك غير بضع دقائق."
أشارت بيدها ودخل الضابط قائلا: "آسف على إزعاجك في مثل هذا الوقت."
ضابط من سلاح الجو الملكي البريطاني، يرتدي زيًا متهالكًا بعض الشيء يضع على صدره جناح الشرف، طويل القامة ونحيف ذو شعر الأسود. كانت أسنانه متباعدة وبارزة قليلاً وإن أغلق فمه. أخرج أنموذجًا مطبوعًا وقلمًا من جيبه وسحب كرسيا ليجلس:
"كيف تشعر الآن؟"
لم يجبه.
" آسف لِما حصل لساقك وأقدر مشاعرك. سمعت أنك قاتلتَ بشجاعة قبل أن نعثر عليك."
كان مستلقيًا ساكنًا وهو يتفحص زائره.
" حسنًا" قال له الضابط، " دعنا ننتهي من هذا الروتين. عليك الإجابة على بعض الأسئلة لكي نملأ التقرير. اسمح لي، أولا وقبل كل شيء، إلى أي سرب تنتمي؟ "
 لم يتحرك. نظر مباشرة إلى الضابط الزائر وقال: "اسمي بيتر ويليامسون، رتبتي آمر سرب ورقمي هو تسعة سبعة اثنان أربعة خمسة سبعة".
 
 
 رولد دال (1916-1990) من أشهر كتاب القصة والرواية في بريطانيا. عمل بصفة مدرب طيران في قاعدة الحبانية سنة 1940 قبل استدعائه لمعركة بريطانيا الجوية ضد ألمانيا النازية التي احتلت معظم البلدان الأوربية بما فيها فرنسا. لقد ذكر سوق الصفافير وربلات بغداد على لسانه كطيار مصاب بالهذيان بعد إصابته بإطلاقات في قصته هذه.