كانَ الليلُ غِرًا من خريفٍ ساغِبٍ إلى جَيشان الشّجنِ في قلبٍ منزوٍ بوحدةٍ وغُربة تسوّره محبةُ كلّ من يصادفُ صاحبَتَهُ أو يزلفُ إليها بقربى أو تعلّق. وقد خَتَلَها وُسْعُها عن أن تتحمّل غوايةَ ظلامه الآتيةَ بما يزبد من أوصابٍ عمرها أقل من أربعينَ يومًا فاصلًا عن موت أُمّها المفاجئ!
يتهيّأ لها طَرْقُ الباب الخشبي الثقيل الممتد من سَقف القاعة إلى أرضيتها، جناحُ ممدّدةٌ على فراشها الذي هو الثاني الجديد في أوانها هذا اطّرحته على الأرضية قِبَلَ الباب، تهجسُ أيّا الطارق اللحظة؟ والطابق f ذو الغرفات الثمان قد لفظَ جلبةَ الطالبات اللواتي نزلنَ إلى بيوت أهاليهن، فالليلة جمعة، وعادةً أذرعُ السكون تشدّ الطابقَ ليومٍ وليلة بعد هذه الليلة، فبنات القسم الداخلي تنتظرهن أمهاتُهن ليُحقنهن ببعض جُرَعِ الحنان، أ يُمكن لخُرمِ الموت ألا ينفرج في هذا الطور الكاسف من سنواتك العشرين يا جَناح؟ البيت قد خوى من صَداحِ صوتِها، ولا ينتظرك في أنحائه سوى دمعٍ موسِرٍ غمدتُه جِبلّتُك المكابِرةُ بصدرِكِ! ملّت الطارقةُ على باب القاعةِ، فانفتحت لها ودَلَفت بهيئتها المألوفةِ لدى ابنتها في مجالِس الحسين، وفي المناسبات؛ بعباءتها الجرجيت المنسابة على قِوامها الدقيق، ووشاحِها البريسم النقي السواد المتّسق مع مُدْلَهِمّات نظراتها، تحملُ بيمينها شمعةً بيضاء مُتَّقِدَةً تشيرُ بها إلى الشُّباك المنفتح على حديقة القسم والعراء المقابل للمسكنِ كلّه، كما هو الوحيد في القاعة بعد البالكونة الصغيرة المطلة على باحة القِسم. وَوَسط العراء ارتفعت سدرةٌ أجلَّ ما تراه العينُ من الشجر، وأورَفها في حدائق الجامعة القديمة، أمُّها أشارت مرة أخرى إلى الشّباك، وإذا به ينفتح ويُختصر مرآى ما يطلّ عليه بالسدرةِ الجليلةِ. إنّي هناك يا ابنتي كلّميني متى وَفُرت مضايق روحك، ثُم مَحَت ظُلمتا الليل والغرفةِ شخوصها، سالبةً معها قبس الشمعة البصيص. انتبهت جَناحٌ من منامها، ناشِفًا رِيقُها، مبتلّا جسدها بعرقٍ بَثَقَتْهُ حرارةُ الرؤيا، سِيّما أنها عاجَلتها قبل ميقات الأربعين! ثم نهضت بنهضة واحدة إلى الشّباك الذي كان على يسارها، وفتحته لتُبصِر بعين خيالها السِّدرةَ حيث اختزنت صورتها أول أمس، عندما سلّمتها ست أسماء ـ مشرفة الطابقF مفتاح القاعة، واخضَلّ قلبُها ببهجة إشرافةِ هذا الشباك على الحديقة، وحدّثت نفسها: لعلي أَصَبْتُ ما اغتذتهُ أحلامي منذ الطفولةِ، بيتٌ تتقدّمه حديقةٌ فيها أرجوحة، تُرجرِجُ عليها نفسَها الغريبة عن وجودها العائلي. بدون أدنى تفكيرٍ انزوت جناحٌ لِتَنْصِبَ مكتبَها المُرتَجَل، كما هَيّأتْهُ في بيتها، وهي تستعد لخوض الامتحان التنافسي للقبول في الماجستير، كان مكوّنًا من طَبْلَة الأوتي، والكرسي تَنَكَة دُهن وَضَعَتْ على وجهِ فوهتها وسادةً بالية، وركنتْهُ في إحدى زوايا غرفة المعيشة لتقرأ عليه وسطَ ضجيج التلفزيون وأحاديث أمها وأخوتها وأخواتها الكثيرات.
انتصبَ مكتبُها قَربَ الشّباك في الزاوية الثانية للقاعة؛ كرسي وَسَطْل كبير مستطيل سرقتْهُ لها من مخزن القسم شريكتها الكرديّة في القاعة، قَلَبَتْهُ ورَصفت عليه كتبَها الكثيرةَ وكان كتاب نظرية الأدب أضخمها؛ ومنضدة بلاستك مدوّرة. إذن، رَكَنَت نفسها قُبَالَةَ الباب، وأيّ داخلة من الطالبات تسميه ركن العلوية جناح، لا تفارِقُهُ إلا في أوقات حضورها المحاضرات في الكُليّة التي تقرب مسافة كيلو متر واحد إلى القسم الداخلي.
كانت تُضايقُها جَلْسَةُ رَمْدَة أمامها على المكتب، ومشاركتُها فيه، إلا أنّها مضطرة، فهذه نقيضتُها في كلّ شيء شاركَتْها في تأسيس المكتب، إذ سرقت لها الطاولة البلاستك الكبيرة. أَجل، رَمْدَةُ نقيضتُها، وجناح نقيضتهن جميعهن، خاصة اتشاحها بسواد حزنها على أمها، لا تمزح، ولا تُرتفع شفتاها إلا بكلمات أشبه بِطلاسم لِمن يساهِمنَها السكنَ، بل لا تخرج من القاعة إلا في أوقات محددة، حين يعصِر النهارُ تهرعُ إلى السطحِ العالي للقسمِ مُدْئبة صعود السلالم بخطى عجلى، ومتأبِطةً أحد الكتب، وَقِرَتْها نجوى زُرقة سماء بغداد، وَغَشِيَتْها ألسنة اللّهب المصّاعدة من الفوهات الشاقولية لمصفى الدورةِ، وكان ما يتكثّف من دخانها في الآل نِدّاً لِغَمائم فؤادها. كانت تترقبُ أوقات قيلولة الطالبات وانقطاع حركتهن في الطابق لتخرج إلى المطبخ، تَعُدّ طَعامها من الكُبّه التي ما عجنتَها أُمُّها ودوّرتها في قُببٍ صغيرة إلا وَسَحَّت إما دموعًا على يُتمِ صغارها وحلالهم الضائع، وإما قالات عن بنات زوجها تلاينُ بها أساها المُخْصِب. وعند مطلع الصبح تتجنّب جناحٌ أن تلتقي نظراتُها بنظرات الأخريات في الحَمّام المشترك، واعتادت حين يثني الليلُ الدّنيا والقسم تتسرّب كَلِصٍّ لِتستحم تكفيها سطلة ماء ساخن واحدة!! فأنّى لها إتِّقاءُ نظرات رَمدة المتربصة بها، وكيف توقي سجيتها الجادّة من فجاجةِ مُزاحها الذي لا ينفك يثب من لسان رمدة بين سويعة وأخرى بجملة: ستشتاقين إليّ ما إن أقوم من أمامك! وكانت رمدةٌ كلما دخلت الغرفةَ وطَرَفَت إلى جَناح سألتْها هل اشتقتِ إليّ؟ والجواب واثب في سريرتِها، ما الشّوق؟ هو في ظنّي مقترنٌ بالحُبِّ، وحتّى الذين فارقوني أُخِذْتُ معهم في قبورِهم، ولعلّي إذا ناديتُ أحدَهم، أصغيتُ إلى رجيعِ الثرى الذي وَاراهم، وإنّي بعدُ أريدهم! هذا معنى الغَصبِ يلتبسُ معنى الحُبِّ!
ـ كَشَّرَت جناحٌ تكشيرتَها المبهمةَ، أهي ابتسامة سحبتْها من وجنتيها ريحُ حزنٍ عتيقٍ، أم كظمة اشمئزازها من أمرٍ أو وجهٍ ما؛ كشّرت أول ما رأت رمدةَ فتاةً غير مصدِّقةٍ أنها مقبولة في الدبلوم العالي للهندسةِ الوراثيّةِ، وأنها طالبةٌ شابةٌ ملأت جفنيْها بظلال ورديةٍ تلتمع كوشاحها الموشّى بنقشاتٍ ما لها أول ولا آخر، وجرّت الكحلَ الأسود حول عينيها القاتمتينِ السواد، والخابيتي الإيحاء، وأنها من عائلةٍ ثَريّةٍ كانت أفرادها عشيرة تُقلّ ابنتها إلى القسم الداخلي بأفخر موديل لسيارة لاند كروزر، بينا كانت جناحٌ تستعين بأخيها ليوصلها إلى مرآب سيارات بغداد، ويهدأ باله حيث يُركبها وحقيبتها المرصوصةِ بالكتب في صدر اليوكن رفقة الجنود الملتحقين بوحداتهم العسكريةِ في الثالثة صباحًا ! ما رمدة فيه من النّعم كبير عليها، لذلك سرعان ما لمحت جناحٌ سرعة كلام هذه الفتاة وإبهامها الإفصاح عن العمقِ البشري المكنون في الإنسان، وخلال نظراتها الزاهدةِ إلى ملامحها جسّت جناح حركة قلقٍ واندفاع نحو اللاشيء، حركة كأنها تقضّ هدوءها، ولا تريد أن تُصغي لتصاهلها كيلا تسوخَ في طينةِ هذه البنت التي ستزيدها بِلَّةً ما أشنعها!
كانت جناح قد طوت شيئًا من تفاهةِ أولى صديقاتها في الجامعة، وصحيح ورديّة منّاها القدرُ بأغوار أعمقها فقدُ أهلها ونهب ما احتازوه بشقّ أعمارهم وبقاؤها وحيدة، إلا أن نفسها متلئبة على غرور تكسفه تفاهةٌ، خاصةً حين تسألُ ورديةٌ من يعنيها: لماذا الناس تقول عني مغرورة؟ ويكسو نبرة صوتها فرحٌ دافقٌ بزعمِها هذا!
تصرّمت سنواتٌ خمس، وإذا بتلك الحركة إبّانها تموجُ فتعلو لسان رمدة، وما تجد من ترتطم به سوى صاغية جَناح:
ــ أبي ظالم ظلم فرعون يقهرني ويذلّني بالسّخرة دون أخواتي، ويفضّل أخويّ عليّ، ويسخر من خصلةٍ جَعداء بين شعري، ونشَّأني على نسقِ تربية أولاد عمي أقفز مثلهم حين يلعبون، وأحمل عنهم إذا كانوا يتنزهون. وأمي حالها كحالي مقطوعة من شجر الحياة المألوفة، لا أُمها تتواصل معها، ولا أخواتها يترددن عليها، فذاك ماضٍ انخرم منذ تزوجت أباها وتَلبّست بسُننهِ، ولا صديقات لها إلا في حدود المدرسة تعدّ لهن الطعام أصنافًا، ولعل هَبَرات الدليمية كان مما تشتري به ودّهن كيلا يقال زوجة المهيب فلان ليس من حولها صاحبات! التقطت جناح بضع نبقاتٍ بخدٍ ناضج وآخر موشِك، وانتقت وريقاتٍ غضّةً كبيرة من السدرة الجليلة حيث كانت تجلس ورمدة تحت فيئها في تلك الظهيرة الخريفية الأوان ، وأعطتها لرمدة قائلة:
السّدرة علوية ولها شأن عند الله ، جدتي كانت توقد لها كل ليلة جمعة شمعة بيضاء وتصلي قرب جذعها، صلي هنا، واقذفي أثقال صدرك إليها، هذه الشجرة كبيرة وطيور صدري مهما عششت على أغصانها المتشعبة ستمنحك مَدةً من غُصين لتعلقي عليه همومك الطفولية يا رمدة!
سُرَّت رمدةُ بما سَمعت، وأخذت تكفكف دموعَها الغزيرة َبوريقات السدر كما أمرتها جناح، وشعرت وقتئذ أن هذه الأخيرة قد أركبتها موجَ الصداقة، وأبحرت بها في خِضَمّ دروبها الغامضة والمستحيلة النهاية!
كانَت مخيلةُ جناح مُدرّبةً على اختزان الموجودات في الأماكن التي تنسج جسورًا عالية بينها وبين روحها، ولهذا ما خشيت يوم فارقت سدرتها الجليلة، ذهنها كان يستبسل قبيل النوم في مطاردة خفقات الرياح على أوراق تلك الشجرة، ويتدفق في مجرى أيامها ذي الضفتين، ضفة واضحة مُهِّدَت لما أرادت أن تكونَ عليه، وأخرى باطنة مرصوفة بصخور من جبل الحزن ونوازعها إلى تسلّقه في أهون ما تصادفه على الضفة الأولى. كانت تبدو منفصلةً عن تلك الضفة، بل بارعة في إخفاء مواسم روحها، وقد درجت عليها الرياح التي كانت تهب في العراء فتهيجُ الترابَ الذي وُلدت في صَعدته، والعشب المُجهض على السدرة، فتخالُ نفسَها زحفتْ كَدُودةٍ تعرف طريقَها إلى لِحاء الشجر تَجُدُّ في نخرِه لِتستفرغَ سُحنةَ وجدانها التي وهبها إياها الكون أو الطبيعة أو أمها. وفي الذكرى الثالثة لوفاة أمها تساءلت أمام رمدة بصوت انبجس من ضفتها السحيقة كيف تُهاجِر إليّ عصورُ الشقاء؟
تعلّقت بالسدرةِ نظراتُ رمدة المبتلّة بصدى اشتياقها إلى جناح حيث كان يمرق صوت هاتفها البعيد من أقصى بقاع الأرض مندغمًا بنشيد العصافير التي لا تفتر تهبط فتعلو على غصون السدرة.
ثَمّةَ مصادفةٌ طيبةٌ أثبتت سريرَها الثالِثَ بسماء قصيّةٍ ما تملك حتّى أن تحلم بخيوط أشعة شمسها التي ما كان مخمل ستائر الشّقة يواريها عن عينيها، وقد أَيقظها شعاع ساطع ذات صباح من منامٍ مُزعجٍ، وقد مَلَأَ سمعَها قولُ أمِّها: يا ابنتي ستخسرين شخصًا عزيزًا حين عودتك إلى العراق، وتسترجع ذاكرتُها قسماتِ تلك الطارقة على باب القاعة قبل ثلاث عشرة سنةٍ! وتنغرس في مخيلتها الآنية صورة فقدها أختها التي تمحضها الحبَّ، فتُهيأ كِنانة وِسعها لتجمع فيها رماحا ستحتاج إلى أن تطلقها على أشباح الحزن التي تنتظرها في دربها القديم، ويقينها أن السدرة الجليلة ما تزال واقفة على ما ينفثه صدرُها مما لا يصدأ على مرّ الأمكنة والسنين.
وفي أحد صباحات الشتاء النادرة اللذّة في جناح نفسه، فرشت الشمسُ أشعتَها على العشب المتناثرِ حول تلعة السدرةِ، وهنالك اصطفق رجيف الخلاء بقشعريرة جناح التي عاقبتها على جسدها النسماتُ الباردةُ، وقد خَلَقَتْها ظلال غصون السدرة، فتحت أزرارَ قميصها العليا، وتمثّلت كَمَنْ ينتزعُ من صدرهِ جمرةً، ارتجفت يمينه ارتجافًا سبق القبض عليها، وإلقائها على تلعة السدرة بعفوية، وخنقت حنجرتها قبضة العبرات عن أن يمرّ هواء نطقها حروف نفاد الصدق في نفسٍ كانت تظنّها أصدق ما لامسَ نَفْسَها! بل تتغلّظ إذا ما اتَّحدت بأمثالها، وتعفّي ذكريات وثيقة من العِشرةِ والدمعة والضحكة تحت فيء السِدرة، لأن جناح استكبرت أن تجلسَ كصنمٍ نقلوه من متحف قديم وزينوا وجهه بأفخر مساحيق التجميل الفرنسية ونصبوه في قاعة حفل زِفاف رمدة حتّى يؤدي واجبًا لا شعورَ له بِه!!
تعاقبت على جو بغداد وشقيقاتها حَمارّات قيظِ تموّز وكأن واحدة تفاخر أخرى بأشد منها سخونة، مما عزّ على جناح أن تكرر زياراتها إلى سدرتها الجليلة، وفي ثامنةِ صباح ما من هذا الشهر وردَها اتصالٌ من رقم غريب، مرحبا جناح أنا ورديّة، لا أريد عمي أن يوقّع على إجرائي عملية قلع رحمي، إني انتظرك في مستشفى الحياة، أرجوكِ تعالي إليّ الآن. مرّت بعض سويعة حتّى سوّت وردية رشوة مسؤول تسجيل العمليات كي يوافق على توقيع صديقتها، وحتّى حيّت جناح عَمَّ ورديّة، وشكرتْهُ على مرافقته لابنة أخيه، وتعهدت له أنها لن تتركَ صديقتها إلا وهي بصحةٍ وسلامةٍ، ثم خرجت مسرعة من صالة المراجعين، ولم تبصره بصر من يحفظ شكله خشية أن تلتقيه إذا ما أنجاها الله اليوم من هذا المأزق! مسكت بيد ورديّة ووعدتها أنّها معها، فلتدخل مطمئنةً إلى صالة العمليات، ثم تخرج وهي أقوى مما عرفتها عليه. وبنظرات شفّت حمى الوحدة منها امتزجت بجملة وردية: إذا مُتُ، فكتمت تكملتها يد جناح وقطعها قولها: لا أبكي عليكِ كان ينبغي أن تحجزي مكانًا للحزن بصدري، آسفة الحجز انتهى! ادخلي...
ثلاث ساعات مضت وجناح جالسة في غرفة استراحة المرضى، درّعت ذهنها بهواجس الخير الذي تضطم عليه دخائلها، والذي سيصدّ كل ما قد يقع إذا ما علِم زوج وردية الهائج أو أفراد عائلتها لأمها بما فعلته اليوم.
نادوا على جناح: صديقتك بأحسنِ حالٍ وقد أفاقت من التخدير، وتريدك، هرولت جناح إلى صالة العمليات وتلقت السرير المتحرك بكلتا يديها تدفعه نحوها ممرضةٌ ضخمة تصرخ لو هذي الصديقة لو بعد ماكو صديقات!! ابتسمت جناح ابتسامة كاذبة كأنها تشف عن تحية لهذه الكائنة المزعجة، وحين أوصلتها إلى صالة استراحة المرضى، ساعدتْها على حمل وردية ووضعها على السرير الثابت، وكانت نظرات وردية تتأرجح بين إغفاءة التخدير وصحو الإفاقة منها، وبينا تمدّ جناح يدها إلى جبين صديقتها لتتفحص حرارة جسمها تسحبها وردية وتقربها إلى شفتيها لتطبع قبلة امتنانٍ عليها، مرددة بصوت محتبسٍ أنتِ أعزّ من أمي!!
هبطَ المساءُ الأول وجناح تستعد لإيقاف تكسي ينقلها وصديقتها إلى دار ورديّة، وثمّة صدفة ستكون يقينًا هاديًا مغزاه أن القبح لا ينفك أن يكتمن في أجمل الوجوه وضاءةً، وأن مبدأ الأقارب عقارِب يتجذر في كل شوطٍ من حياة امرأة زائغة بتكوينها عن فطرة النساء، صدفة شَطَبت عشرينَ سنةٍ من ذاكرة عمّرتها إرادة جناح الصادقة وراء كل علاقة نسجتها مع الناس، صدفة مرت إحدى قريباتها بسيارتها الفاخرة العالية، فَحَيَّتْ جناحًا وسألتها ماذا تفعلين بباب المستشفى، شرحت لها جناح بعضا مما هي فيه منذ الثامنة صباحًا، فسارعت تلك القريبة بفتح حقيبة السيارة وملأتها بأشياء ورديّة، ثم هرولت قبل جناح لتتلقى الكرسي المتحرك الذي أُجْلِست عليه المريضة ودفعته الممرضة إلى باب الخروج، وأقلّت وردية بِرِفقٍ وتؤدةٍ، وبينا تمرق السيارة بهن إلى بيت وردية انبعث في خاطر جناح هاجس عن هذه الصدفة بخير صديقتها التي لا تنقضها إلا صدفة الشر المطبق على وردية من كلّ أنحائه من أهلها وزوجها، بل حتّى من ولديها!! أنسى وجود القريبة ورديةَ ألمَ ما بعد العملية، حتى تفاجأت صديقتها لتقبلها السريع هذه القريبة الغريبة التي ستبيت الليلة معهما لدرايتها بالطب والأدوية ومعالجة الآلام.
وإذا أطمأنت جناح وهشّت نفسها لسلامة صديقتها، فإن وعيها قد سبحَ في موجة خوفٍ على هذه القريبة المندفعة، والتي أهدتها الصدفةُ أن تدع بيتَ أهلها الليلة، فلطالما هربت من انضباطية بيتها الذي يحكمه والداها المختلينِ رغم شهاداتهم الكثيرة وحالهما اليسيرة، يكتالان لمن يقترب من أبنائهما من الظنون السيئة ما لا يخطر على لُبّ عاقل. انتصف الليلُ وسكّنت حقن الالتهاب ومضادات الألم ورديةً، فنامت بينا هذه القريبة يشغلها التواصل في الهاتف، خرجت جناحٌ إلى مكشوفة البيت لتغسل صدرها مما علق به من أوضار القلق، وعيناها بدل أن يغشاهما النوم جرّاء تعب اليوم، غشيهما السهوم في تخيلات أهونها أن يهجم زوج وردية في أي لحظة، ويسدد في رؤوسهن طلقات ثلاثا! وما تكاد ترقّي بصرها إلى سماء ليل الصيف الصافية حتى تلمح أغصانًا فتية لِسدرة اتّكأ جذعها على جدار البيت، وكأن وريقاتها خفرات لم يعرفن شهوة مداعبة الرياح لسيقانهن الدقيقة، ضجّت الجناح نفسه لهذا المنظر وامتنت روحها لهذا الإله الذي يُتلعُ لها في كل طريق وعرة سِدْرَةً! وقرّ شيءٌ من هواجسها التي جردت الصفاءَ من بالِها، وانحسر حصارُ تفكيرها بوردية وجرائرها التي لا تنتهي وهذه الفتاة القريبة التي باتت عند امرأة لا تُدرك لحياتها سُنة لاحبةٌ، مهجورة أم مطلقة، لها أهل أو أعداء؟ لها أول تعرفه جناحٌ، وتظنّ أن ليس لها آخر سوى القِتلة!
هذه المرّة كشحت السنون عن عادتها في مدّ ظلالها الكابية على صداقات جناح، وتقلصت بإرادة خفيّة إلى بضعة شهور عَقِبَت عمليةَ ورديّة، وإذا نزيلةٌ كانت تتوقع أن تستقرّ في غرفات يقينها لا تختلف عن سابقتها، بل هي نسيبتها في نفوق الإخلاص ومذق المودّة، لكن هذه المرّة ليست بسبب واجبٍ تقاعست عن أدائه طبيعة جناح، بل بوشاية هذه الفتاة القريبة المتوردة الوجنتين شبابًا غضًّا والرامحة العينين إلى من يرى صاحبتهما جوهرةً سيملكها سيدٌ بالحلال ويحفظها زوجةً أثيرةً لأُسرةٍ كريمة، ولا بأس عليه أن تنطوي نواياها على تمزيق الممزّق وتأجيج الرماد والسعي بين النفوس المتواشجة والالتذاذ بتنافرها وتجافيها!!
توقفت جناح بعض دقائق بسيارتها على مقربة من بيت وردية، لتُلقي نظرة وداع أخيرة لتلك السدرة اليافعة التي لا تبعد عن الطريق الذي تقطعه كل يوم واصلة إلى مكان عملها إلا بضعة كيلو مترات، رَمَقَتْها رَمَقَاتِ وداع أو رمقات ائتمان روح وردية البليدة التي تجهل أنقى نَفْس أحاطتْها! وإن الوشاية مهما كَبرت لن تمحو قبلةَ الامتنان التي طبعتها على كَف الصديقة قبل زمن قريب، ولا تُزيل تلك النظرات الشاكيات إلى جناح الوحدة والضياع في العالم غِب مقتل أهلها؛ ثم ضغطت جناح كابح البنزين وسارت مسرعةً يشحذ وجدانَها أملُ أن تُغرس لها سدرة ثالثة تحتطبُ أغصانها وقودًا إذا ما حلّ شتاء قاسٍ في النفوس!