لم يبتعد سوى خطوات عن مودعيه، حتى شعر بانقباض ووخز حاد في جنبه الأيسر. طوال النهار وهذا الشعور يلازمه. لم يخبر أحدا بذلك. انه يومه الثاني في بغداد بعد أكثر من عشرين عاما. أيفسده على نفسه بشعور غريب ربما يكون طبيعيا؟ وماذا كان ينتظر بعد كل هذا الغياب؟ بالطبع لم يكن أحد ما في انتظاره، أبوه وأمه رحلا إلى مثواهما الأخير، وهو بعيد عنهما، دون ان يتسنى له وداعهما. من سينتظره إذن؟ انقطعت كل صلاته المباشرة بأقاربه ومعارفه منذ السنوات الأولى لرحيله. يعرف ان أي اتصال له بأي من اقاربه ربما يؤدي بهم إلى الموت، سمع عن هكذا قصص مروعة كثيرة، يكفي ان تبعث بسؤال عن صحة جاره حتى يعتقلوه ليعرفوا درجة ولائه وتآمره وكثيرا ما يختفي من دون أثر، فلم يجلب العذاب للآخرين؟ يكفي ما يواجهه بنفسه. ولذا من سيخرج لاستقباله؟ حتى أقرباؤه لا يعرفون بقدومه؟ أكان ينتظر خروج الناس الى الشوارع والهتاف والتصفيق له؟ ومن هو حتى يمكنه التفكير بذلك؟ أهو قائد سياسي من الأحزاب التي عادت مع الدبابات الامريكية؟ حتى السياسة منها غادر العراق وهو لا يعرف الكثير من خبايا العمل السياسي. في سنوات الدراسة في معهد المعلمين، حاول الشيوعيون، بعد اطمئنانهم اليه، ضمه لحزبهم، أعتذر منهم بخجل. قال لصاحبه الذي فاتحه بالأمر:
ــ اتركوني ارجوكم، لا أحتمل التعذيب والاهانات وربما ...!
وخارج العراق حين عاود ابن مدينته الأمر ثانية قال لهم:
ـــ لا اعتقد أني أطيق الضوابط الصارمة للعمل الحزبي، لكني مثلكم أحلم بعراق مدني ديمقراطي، أتركوني هكذا، أشارك في تظاهراتكم ضد الديكتاتورية واشتري جريدتكم!
حين غادر العراق مضطرا، لم يكن ذلك لأسباب سياسية. ذكر الحقيقة للمحقق الفنلندي حين أستجوبه عند تقديمه طلب اللجوء. لم يشأ اختلاق تاريخ لنفسه ليس لائقا به، مثلما فعل البعض من اجل سرعة الحصول على اللجوء السياسي. قال للمحقق ببساطة:
ـــ هربت من الحرب المجنونة ولا أريد الموت!
استجاب لتوسلات أبيه وأمه وغادر العراق سرا الى الكويت. ومن هناك تنقل وجال في بلدان كثيرة. تحرك من لغة الى أخرى. من شرطي الى شرطي. من ذل الى آخر. اشتغل في مختلف المهن، وحصل من أحد معارفه على قرض بالفائدة ليوفر نفقات وصوله الى اي بلد أوربي، حيث كل أبناء بلده يبحثون هناك مثله عن سقف آمن. توسل كثيرين للمساعدة، قبل لقائه في ساحات موسكو بوكيل المهرب الذي قاده الى أقصى شمال أوربا. الى حافة القطب مرة واحدة، الى سقف العالم كما يتندر ابن مدينته الذي سبقه الى هذه البلاد. لم يكن يفكر بهذه البلاد، ولم يحلم بزيارتها يوما، ولكن سعر التهريب الى فنلندا كان الأرخص يومها. لقنه المهرب جيدا ماذا يقول للمحققين. ومر كل شيء بسلام. بعد عام منحوه حق اللجوء الإنساني وصدقوا قصته التي لم يكذب فيها كثيرا. ومن الطبيعي الشعور بالانقباض وهو يجد نفسه في شوارع بغداد وحيدا بعد وداع مضيفيه، الذين غمروه بكرمهم ومحبتهم. لسنين طويلة، لم يتسن له عيش مثل هذه الاجواء العائلية المترعة بالألفة الحميمية. غلفت مشاعر الدفء قلبه مع كل كلمة طيبة من اهل رفيق سفره، خاصة من كبار السن. رافقه ابنهم من الأردن الى بغداد. كان شابا رائعا، لديه ما يكفي من النباهة لتتوغل نظراته عميقا في روحه، ومن دون تفاصيل كثيرة أدرك حيرته وعرف شيئا من عذابه وهواجسه. أدرك كونه حين يصل بغداد لا يعرف إلى أين سيتوجه، فاقترح عليه مرافقته أولا الى بيت أهله في منطقة الجهاد ليرتاح أياما وينجز بعضا من التزاماته في بغداد وليفكر مليا، ثم يواصل طريقه الى مدينته في الجنوب. جاءه العرض هبة من السماء، كان حقا لا يعرف الى أين سيذهب؟ توفي أبيه وأمه وهو في المنفى. ودفنا في مقبرة العائلة في النجف، ولم يتركا له بيتا أو ما يورثه غير الحزن وشاهدة قبريهما. كان يتساءل وبصوت عال امام رفيق سفره:
ـــ أيذهب الى المقبرة في النجف اولا، أم يواصل رحلته لزيارة من ظل حيا من أقاربه في مدينته؟
ومع نفسه كان يواصل التساؤل حول من سيزور اولا؟ هل يتوجه لزيارة خاله أم عمه؟ واي من خالاته ستكون الاولى؟ وكيف سيستقبلونه؟ ومن منهم سيستضيفه لأيام؟ وكيف سيكون موقفهم إذ يعرفون انه جاء بدون أي هدايا، وانه استدان ثمن بطاقة الطائرة من اجل المجيء؟ أيظنون انه جاءهم بحقائب مليئة بالدولارات؟ يعرف ان أصغر خالاته سترحب به. فهذه المرأة لم تطلب يوما شيئا لنفسها، وعبر امه كانت تصله فقط تحياتها وامنياتها بالصحة والسلامة، ولذلك قرر التوجه لزيارتها اولا. لم يحاول الاتصال بأقاربه طوال السنوات الماضية، حتى بعد وفاة امه، كان دائما يرسل لهم تحياته عبر أبيه وأمه. حين توفى ابوه، قام عمه بواجبات الدفن، ولكنه لم ينس ان يرسل له قائمة المصاريف، بما في ذلك سعر المناديل الورقية التي استهلكها الضيوف. استدان من أصدقائه ومعارفه وعمل أوقاتا إضافية في غسل الصحون وأرسل لهم قيمة المصاريف كاملة. بعد وفاة ابيه لم يرد لأمه أي طلب. بما في ذلك طلباتها في مساعدة خالاته، وخاله وعمه. وهكذا ولأجل أمه، وحتى تكون قوية أمام الاخرين، تحمل نفقات زواج ابن عمه من دون معرفته حتى باسم العروس. ودفع البدل النقدي للخدمة العسكرية عن زوج ابن خالته الوسطى، الذي لم يكلف نفسه ارسال كلمة شكر. لم يعرف الراحة يوما. عمل في مطاعم البيتزا ليلا ونهارا. أنتقل من تسديد قرض الى اخر. وكان المهرب الذي أوصله الى فنلندا رجلا متفهما. لم يتركه وحيدا. وجد له عملا في أحد مطاعمه الثلاثة المتوزعة في العاصمة. وكان يدخر له أجور عمله ويمنحه قروضا بين الحين والآخر، ويساعده بإيصال ما يتوفر لديه من مبالغ الى امه خلال ايام معدودة، بغض النظر عن همس أحد معارفه بأن صاحب المطعم وبحجة توفير اجوره يستثمرها وغيرها في مشاريعه العديدة. كان ممتنا لان الرجل يفهم ظروفه. وتمادى مرة في نيل محبته، وفكر في خطبة ابنته الوسطى. قابلها مرارا من بعيد لبعيد. صحيح انها كانت ممتلئة قليلا لكن عينيها كانتا ساحرتين، وأثاره فيها طريقة تسريحة شعرها وتلك الخصل التي تتركها تتحرك بفوضى وتداعب نهدها الكاعب، تستره حينما تريد وتكشفه في حين آخر، وإذ اكتشفت مخالسته النظر إليها صارت ترسل له ابتسامات غامضة، ومع تذكره لوصايا والديه في حفظ أعراض الناس، لم يتماد في شيء يغضبهما في قبريهما، لكنه فكر في سؤال والد الفتاة للزواج من ابنته لينهي مسلسل الابتسامات الغامضة، وقبل إقدامه على هذه الخطوة، وحتى لا يقال انه لم يتعلم شيئا من حياته في أوربا، اراد معرفة وجهة نظر الفتاة أولا. في حفل اقيم بمناسبة عيد رمضان، في قاعة مدرسة استأجرت لهذا الغرض، وكلفه يومها صاحب المطعم بالإشراف على بيع الشاي والقهوة، قابل الفتاة وهي ترتدي من الذهب ما يغطي كل صدرها مما يلغي وظيفة خصل الشعر. كان هناك الكثير من الناس الفرحين والسعداء بالموسيقا والرقص، فشعر ان هذا أفضل يوم للإقدام على خطوته. سلم عليها فأجابته بابتسامه عريضة، فتشجع أكثر ووجد نفسه يقول لها مباشرة:
ــ أفكر بخطبتك من أبيك فماذا تقولين؟
نظرت اليه باستغراب شديد، تلوى وجهها بشكل عجيب. برطمت ثم صعقته بنظرة لم ير مثلها من فتاة أبدا، وقالت له:
ــ هل أنت مجنون؟ أتعرف ماذا تقول؟ تريد خطبتي أنا؟ ومن تكون أنت؟
وتجاوزا لاي إحراج، ووسط دهشة والدها، ترك العمل معه وراح يفتش عن مطاعم أخرى، ويبحث لنفسه عن اهتمامات أخرى في انتظار ما تخبئه الأيام. وما ان سقط تمثال صدام حسين في ساحة الفردوس، حتى راح مثل غيره يخطط للسفر الى العراق. لم يكن يملك رأسمالا ليفكر بمشروع ما، ولا طموحا بوظيفة أكثر من سبورة وعشرين تلميذا وخرائط وكتاب جغرافية العالم. طوال سنوات غربته وشعور المرارة يسحقه لعدم حضوره جنازة ابيه وأمه. يوم مغادرته العراق قال ابوه وهو يغالب دموعه ويحرك حبات مسبحته (اليسر) بسرعة:
ـ لم اظن يوما أني سأموت غريبا، وحيدا، بدون رمي ولدي الوحيد حفنة تراب على قبري.
وشعر ان من واجبه زيارة قبريهما ليعتذر اليهما. وبسبب ذلك ظل في داخله دائما ثمة شيء يغلي طيلة كل هذه السنين. انتظر طويلا يوم العودة الى بلاده. لزيارتهما وسكب دموعه على تراب قبريهما. وليتسكع في الاماسي على مهل في شوارع مدينته الجنوبية. يسير على ضفاف نهر المدينة ويسحب شهيقا عميقا مراقبا طيور النورس وزوارق الصيادين، كما تعود فعل ذلك في زمان مضى. يرفع نظراته مساء الى صفحة السماء ليعد النجوم مثلما فعل في طفولته، باحثا عن نجمته التي لم يتسن له رؤيتها في سماوات الغربة المثلجة والملبدة بالغيوم دائما. في مقهى مزدحم بالمهاجرين دوما، في شارع فرعي من مركز مدينة هلسنكي، يتردد عليه بين الحين والاخر، قال أحد معارفه موجها كلامه للجميع:
ــ حالة الفوضى والفراغ الامني يبدو انها ستطول في العراق.
وقال اخر:
ــ عملية السلب والنهب والاغتصاب في كل مكان، وليس في بغداد وحدها.
وقال اخرون:
ــ من مصلحة قوات الاحتلال الامريكي ان تدوم الامور بهذا الشكل كمبرر لاستمرار وجودها.
وقال ابن مدينته:
ــ حالما تشكل حكومة عراقية مستقلة سيتغير كل شيء.
وهمس أحد معارفه:
ــ أجل سفرك. انتظر حتى تهدأ وتستقر الاوضاع.
لم ينتظر. اوضح لمعارفه كونه حاملا للجنسية الفنلندية وهذا سيساعده على اجتياز كل الحدود كفنلندي بسهولة، ولا يمكن لقوى الاحتلال الأمريكية ولا دول الجوار ان تفعل له شيئا ما، فلم التأخير في السفر. في مطار هلسنكي ودعه معارفه من حملة جوازات اللجوء وهم لا يخفون حسرتهم وربما حسدهم، وكرر ابن مدينته وصاياه:
ــ لا تتحرك ليلا وحدك.
واخر يؤكد:
ــ لا تحمل كل فلوسك معك.
واخر:
ــ لا تركب سيارة شخص لا تعرفه.
شعر كأنهم يبالغون قليلا. في العاصمة الأردنية وجد نفسه يلتزم بالوصايا، ويبحث عن رفيق سفر الى بغداد. إذ كثيرا ما حصلت حالات سلب ونهب على الطريق. وبسهولة قابله في باحة الفندق شخص قادم من السويد. كان مثله شابا عازبا، مترددا وخجولا، ومن دون تعقيدات تعارفا واتفقا على السفر معا. وعد هذا فألا حسناً كمفتاح لرحلته. كان رفيق سفره ودودا واثبت انه خير أنيس سفر، وتعود عليه بسرعة واحسه اليفا للقلب. وما ان وصلا بغداد حتى اجبره على مصاحبته الى اهله كأخ، وان يبقى عندهم اليوم الاول، دارا فيه معا شوارع وساحات بغداد. كانت الدموع تخنقه في كل لحظة. حين يمر بمكان أليف له فيه ذكرى معينة أو حين مر جنود أمريكيون يحدقون اليهما بتوجس. بلد يتحرك من ديكتاتورية الى احتلال. من احتلال الى احتلال. رغم ذلك يلمس فرح الناس بالحياة الجديدة بأكثر من شكل. يعبرون عن ذلك بشكل مباشر، بضحكات عالية، بالشتائم، بالصلوات والاغاني. ورغم كونه عاش لفترة طويلة بعيدا عنهم الا انه يمكنه لمس شيء من التغيير في نظراتهم ونبرات اصواتهم، فيها أشياء جديدة افتقدوها طويلا. من جانب اخر اثارته حالة الفوضى التي تعيشها البلاد. لا يوجد هناك شيء اسمه نظام. فوضى كاملة. يلمسها جيدا في كل مكان. لا شيء اسمه دولة، ومنذ دخوله حدود البلاد.
ازدحام شديد في الشوارع وخاصة عند الاستدارات. تلال الزبالة تنمو في كل شارع. اصوات الرصاص تسمع في كل حين. كلاب سائبة واخرى ميتة. مياه المجاري الصحية طافحة في أكثر من مكان وتقطع على الناس حركتهم. أهل رفيق سفره يتحدثون عن عصابات مسلحة منظمة تتجول بحرية نهارا. قال ابن عم لرفيق سفره:
ــ أطلق صدام حسين عفواً رئاسياً عن مئات المجرمين قبل بدء الحرب، وهم الآن يملأون شوارع بغداد.
قال الاخ المعوق في حرب الكويت:
ــ بعض البعثيين ما زالوا يتحركون بأسلحتهم، ويتصرفون كأنهم حكومة على الرغم من سقوط نظامهم وهروب صدام حسين وإعلان جوائز بملايين الدولارات ثمنا لرأسه.
يسكن الخوف قلوب افراد العائلة. الى جانب فرحهم بزوال النظام لكنهم خائفون من المستقبل. ومن دون قصد وجد نفسه ينثر الأمل، مستعيداً كل ما حدثه به ابن مدينته عن مستقبل البلاد من دون الديكتاتورية والآمال بحياة أفضل بعد زوال الاحتلال. وامعانا في التفاؤل رفض بإصرار مصاحبة أي من مضيفيه عند خروجه فجرا لإيصاله الى كراج السيارات في العلاوي. لم يشأ إفساد اجتماعهم ولمتهم. كان البيت مزدحما بالأقرباء الذين جاءوا من مناطق بعيدة لرؤية الابن العائد، رفيق سفره الذي غاب طويلا وبدا سعيدا جدا. قال لهم بحزم:
ــ سأخذ سيارة اجرة من رأس الشارع وأكون في الكراج خلال أقل من ساعة. وعند الظهر سأكون في مدينتي.
ما ان غادر منزل رفيق سفره وودعه، شاعرا بالامتنان له ولعائلته، للحاق بأولى السيارات المتوجهة الى مدينته الصغيرة، أحس بأن الشعور بالوحدة يقبض روحه بكف من حجر. وما أن اجتاز الشارع القريب، المظلم شيئا ما، الى الطرف الثاني، محاولا العثور على سيارة أجرة، حتى شعر بارتكابه خطأ لا يمكن إصلاحه، وشعر بمعنى الوخز في جانبه الأيسر. كان عليه ان لا يستهين به. عرف بخرقه لوصايا ابن مدينته وبقية معارفه ولم يلتزم بها، وانه ظل متفائلا أكثر مما يجب.
لم تتسن له العودة من حيث أتى ولا الهرب ولا فعل أي شيء، ولا حتى الصراخ. كانت في باله فكرة واحدة، الا وهي حدوث ما يخشاه لنفسه وتوقعه الاخرون بهذه السرعة مثلما يحدث في أفلام سلفستر ستالوني؟ يا له من حظ وقدر ساخر!
سار على مهل موقناً من ان كل شيء سيحدث مثلما هو مقدر له، مثلما كان والده يكرر دائما بعد كل صلاة وهو يكرر ادعيته ويحسب خرزات مسبحته. ما ان تجاوز شاب بملابس قاتمة، اعطاه ظهره وافتعل النظر باتجاه بعيد عنه وكان يبدو مشغولا بشيء ما بين يديه، حتى بدأ كل شيء. هل شاهد هذا في فلم من الافلام الامريكية التي يتابعها، وجعلت بعض معارفه يقولون انه صار مدمن أفلام، بينما يجدها خير وسيلة للتسلية وقضاء الوقت بدلا من التسكع في الحانات والمراقص، خصوصا في الفترة التي يكون فيها بلا عمل، ويكون لديه الكثير من الوقت لا يعرف كيف هي أشغاله؟
هناك من يلومه لأنه صار مغرما بمتابعة أخبار أبطال الأفلام ومعرفة تفاصيل من حياتهم، بحيث صار يعرف الكثير عن سلفستر ستالوني، الذي طالما روجت أفلامه لأهمية التدخل الأمريكي لحل مشاكل العالم. ما حدث بعد ذلك جرى تماما مثلما توقع ومثلما خطر في بال ابن مدينته ومعارفه وهم يكررون تحذيراتهم له. قفز الشاب ذو الملابس القاتمة بمهارة لاعب سيرك ووضع شيئا في خاصرته. عرف فورا انها ماسورة مسدس وفح بشيء لم يتبينه جيدا لكنه فهمه تماما. هذا مثل مشهد في فلم شاهده يوما، وليس بالضرورة من بطولة سلفستر ستالوني. سرعان ما ظهر شاب اخر من لا مكان وخطف حقيبته الصغيرة من يده، بينما راح ثالث يدفعه من ظهره ليعجل في خطواته. راح الذي اختطف حقيبته ومن دون التوقف ينبشها بمهارة. وعلى طول الشارع تناثرت ملابسه مقلوبة الجيوب، وفض مغلفات رسائل يحملها معه، بعث بها احد معارفه لايصالها الى عوائلهم.
شاهد قميصه المائي مثل طائر جريح يهبط الى اسفلت الشارع القذر. أعتقد انه سيزور قبر والدته مرتديا هذا القميص بالذات. كررت أمه انه لون يناسب سمرة بشرته. وحين تكررت لقاءاته بتلك الفاتنة الشقراء الفنلندية، التي كانت من زبائن المطعم حيث يعمل، وتشعبت أحاديثه معها، وحدثها يوما عن أمه واللون المائي، كانت هديتها له هذا القميص، وبعد عام له فاتحها بأمر الزواج وإنجاب طفل، اغرورقت عينيها الملونتين بالدموع واحتضنته وقالت بحرقة:
ــ حلمي العيش مع رجل مثلك، رقيق وطيب وبسيط وحقيقي، ولكن به حاجة الى امرأة عراقية لتنجب له اطفالا مثلما تراهم في احلامك واحاديثك. لا يمكن لام اطفال رجل مثلك إلا ان تكون عراقية.
اقترب شخص رابع منه. من اين خرج؟ لم يلاحظه في البداية. كان مسلحا ايضا، ولكن ببندقية كلاشنكوف بأخمص معدني مطو. كان أقصرهم ومدحدح ومن حركاته يبدو انه زعيمهم. اوقفه في زاوية الزقاق. امسك بندقيته بيده اليسرى، وراح وبمهارة وفن يمد أطراف اصابع يده اليمنى ويحركها في كل جيوب ملابسه. يعرف جيدا ما يفعل. وبدراية تامه مد اصابعه تحت ابطيه، راح يجس خاصرتيه وظهره، ثم وفجأة وبحركة مباغتة صارت الاصابع كالأفاعي تتحرك تحت ثيابه، وبذات السرعة انسابت على بطنه، نزلت الى وسطه، ثم توقفت قليلا بين ساقيه. وأطلقت ضحكة:
ــ قبل اسبوع مر من هنا واحد مثلك. كان يخفي كل ثروته مربوطة الى خصيتيه.
كانت اول جملة سمعها منهم. تعاملوا معه منذ اللحظة الاولى بالإشارات، بخبرة ودراية، والغريب وجد نفسه يفهمهم بسرعة. توقف… ارفع ذراعيك… لا تتكلم … لا تتحرك… هات الحقيبة … انزع سترتك! ثمة شيء ظل يجثم على روحه يجعله يفهم كل اشاراتهم. لم يفكر بهذا الامر سابقا. لم يحاول الاحتجاج او القيام باي حركة تغضبهم. كانت فوهات مسدساتهم اللامعة تحت ضوء الفجر في الزقاق الموحش تسلبه أي حق بالاعتراض. أحدهم يرتدي زيا متنافر الالوان ويربط جبينه بوشاح على طريقة (رامبو) ويرخي طرفه حول نصف وجهه الى الاسفل أمسك كل كف بمسدس وحركهما بمهارة فائقة كأبطال أفلام رعاة البقر.
إقتادوه هرولة من طرف الشارع الى عمق الزقاق المظلم. حصل كل شيء سريعا وكأنهم مدربون على كل ذلك. انتبه الى كونه جاراهم بسرعة الجري وكأنه شاركهم التدريب لضمان سرعة الانجاز. أخرج المدحدح من جيب سترته الداخلي، محفظة نقوده الجلدية، ورزمة من الاوراق بينها جواز سفره. تصفح الاوراق وجواز السفر بسرعة. وأطلق ضحكة وبصوت مسرحي صاح:
ــ حضرتك فنلندي؟ أهلا وسهلا! Welcome ...
كان الصوت ساخرا جدا، ومن خلف اليشماغ الذي يلف به المدحدح وجهه تأتيه الكلمات خشنة وقاسية مثل حجارة مسننة. فتح المدحدح المحفظة واستخرج كل ما فيها. قلب ما يجده مدققا فيه بسرعة ثم يرميه على الارض. وميز المدحدح وهو يرمي بطاقة المكتبة، بطاقة المواصلات، بطاقة الهوية الشخصية الفنلندية، بطاقة دائرة الضمان الصحي، بطاقة التسوق وبطاقة البنك، ثم رمى المحفظة كلها فارغة. واقترب منه هازا اضمامة من الاوراق النقدية بين اصابعه:
ـ اين بقية النقود؟
ولأول مرة سمع نفسه يتكلم، وخيل له ان صوته يعود لشخص غيره:
ـ هذا كل ما عندي وهذه ليست كلها نقودي، معها امانات للناس؟
وصاح المدحدح بنفس الصوت الحجري:
ــ ايعقل ان هذا كل فلوس فنلندا؟
وقال بألم وهدوء:
ــ صدقني لقد استندت قبل المجيء من رب العمل على أمل التسديد فيما بعد.
قال المدحدح باستغراب:
ــ يعني لك نية العودة الى اوربا؟
وفغر فاه. ماذا يقول له؟ بماذا يجيب؟ لا يعرف ماذا يخبئ له المستقبل وهو يعود لوطنه بعد عقدين من الزمان. نداء من القلب دفعه للمجيء. لم يتمكن من الاحتمال. كل الناس يسافرون لزيارة اهاليهم واقاربهم. صحيح ان امه واباه غادرا الحياة، لكن هذا وطنه. لابد ان احدا ما سيأخذه بين احضانه. سيزور قبر ابيه وأمه، وسيبكيهما بحرقة ويرجوهما المغفرة. سيحكي لهما عن سنين العذاب في الغربة. سيزور بعضا من مرابع الطفولة والصبا. سيزور مدرسته الابتدائية ويدخل صفه القديم. يزور المدرسة المتوسطة حيث كان يعمل قبل ان يرغموه على لبس الخاكي ودفعه الى الحافات الامامية لجبهات الحرب. سيسأل عن أبرز تلاميذه. يزور عوائل اصحابه. يعزي عوائل من ماتوا في الحروب أو في السجون. يبحث عن فرصة عمل، أي فرصة عمل، ربما ينجح في العودة للتدريس. عن غرفة يمكنه السكن فيها. يسأل أصغر خالاته لتبحث له عن بنت حلال. حتى لو أرملة حرب. يخطبها ويتفق على تفاصيل الزواج. يعود الى فنلندا ليرتب اموره فيها والعودة بدون رجعة، ليعيش ويموت تحت سماء مدينته التي ظل يحملها في قلبه اينما توجه.
اقترب المدحدح منه أكثر وسأل بشكل مفاجئ:
ــ حضرتك من حزب الدعوة، من الحزب الشيوعي، من أي حزب؟
ولمعت في رأسه أضوية، وشم رائحة حريفة طافت يوما في جو القبو الذي اقتيد له قبل أكثر من عشرين عاما، ليسألوه ذات السؤال وإن بطريقة أخرى مع اللكمات والرفسات. نظر ضابط الامن في عينيه بلؤم كبير:
ــ نحن نعرف عنك كل شيء يا غبي، نعرف عدم انضمامك الى أي حزب، لكن لماذا ما تزال ترفض الانضمام الى حزب البعث؟
وصاح به المدحدح ثانية:
ــ لم تجب على سؤالي؟
منع نفسه من الضحك، لكن الذي جعله يفهم لغة اشاراتهم ويستجيب لها جعله يصمت، فقال بصدق:
ـ طيلة عمري لم أنتم الى أي حزب سياسي.
ولكن المدحدح يبدو لم يقتنع:
ـ وماذا كنت تفعل في الخارج؟
فكر بسرعة، حقا ماذا كنت افعل خارج العراق؟ في فنلندا وإذ لم يجد عملا كمعلم على الرغم من تعلمه لغة البلاد، وبعد ان أعياه البحث، اختار أسهل الحلول وتوجه للعمل في المطاعم الشرقية التي بدأت تغزو البلاد. لذلك لم يتصور انه سيواجه بهذا السؤال يوما ما. اقترب منه (رامبو) محركا مسدسيه مثل لعبة، وقال للمدحدح بصوت عال:
ـ ما بك هذه الليلة، تتفلسف معه، لننصرف بسرعة، خلصنا؟
ابتعد المدحدح عنه قليلا، همس شيئا بأذن رامبو وعاد اليه، وقال بصوت غاضب:
ــ حقا أريد معرفة السبب، ما دمت تعيش في اوربا، لماذا عدت؟ انشاء الله تريد ان تصبح وزيرا؟
ووجد نفسه يبتسم رغما عنه. لم يحلم يوما ليكون مديرا لمدرسة. يريد هذا الشقي ذو الوشم الغريب على ساعديه، الدفع بأحلامه الى مستوى لم يعهده يوما في حياته. ومثلما راح يحدق بشراهة بنقوش الوشم على ساعد المدحدح، فكر بالوقت الذي تطلبه نقش هذه الوشوم؟ انتبه المدحدح لنظراته، فمد ساعده متباهيا:
ـ هل أعجبك الوشم؟
كان يفكر بشكل آخر، ويبدو ان المدحدح قرأ افكاره، فقال بنبرة لينة تماما وهو يبعد فوهة البندقية عنه:
ـ في ابو غريب، وقبل إطلاق سراحنا في العفو الرئاسي الشهير، كنت أقضي حكما بالسجن المؤبد لقتلي شريكي ومساعده ...
توقف قليلا عن الكلام ونظر اليه متمعنا:
ـ كانت قضية خلاف سخيفة سببها الطمع.
المهم في (ابو غريب) اشتغل ثلاثة رجال في إكمال هذا الوشم، نقلوه عن مجلة أمريكية حصلنا عليها وقيل انها وصلت بغداد عبر تركيا. ماذا نفعل في السجن لقضاء الوقت؟
ولم يرد بشيء. شعر بجفاف في فمه، وشعور بالعطش والوخز الحاد في جنبه يتواصل ويزيده توترا وهذا المدحدح الموشوم يثرثر عن اشياء لا تهمه، ويعاود قذف حجارته المسننة:
ـ لماذا تركت فنلندا؟ وعدت الى العراق؟
قال صادقا وغصة في قلبه:
ــ اريد زيارة مقبرة النجف، ابي وامي مدفونان هناك...
قاطعه (رامبو) ضاحكاً:
ــ أطمئن، سنرسلك الى هناك بأسرع ما يمكن.
اراد السؤال ان كان لديهم سيارة خاصة، لكنه خمن انه سيبدو غبيا حقا. اقترب المدحدح منه وقال بنبرة لم يألفها:
ـ غبي. أنت غبي. العراق لم يعد لكم. تركتموه حين كانت به حاجة لكم. والان جئت لتذرف دموعك. لتعتذر من ابيك وأمك أو من نفسك.
لم يكن مجرد قاطع طريق وقاتل، بدا له فليسوفا. فكر مع نفسه. اراد الرد بشيء ما. القول مثلا انه لم يكن امامه خيار آخر، حين وضع بين الموت والحياة. وأن والديه توسلاه حتى ...، اراد القول ان ... لكن صرخة تحذير صدرت من طرف الشارع. ثم إطلاقات متعاقبة ومتقاطعة. ظهرت سيارة عسكرية.. تقترب اصوات تشتم بالعربي والانكليزي. واصوات اقدام تتراكض. صاح المدحدح بصوت حاد وآمر:
ـ اتركوا المكان.
والتفت اليه وقال:
ـ وانت، ماذا افعل بك؟
اراد أن يقول شيئا خطر في باله، ولكن قبل النطق بكلمة، تعالى إطلاق نار من عدة اتجاهات. لم يتمكن من سماع الكلمات الاخيرة التي قالها له المدحدح قبل اختفائه في عطفة الزقاق، لكنه رأى (رامبو) يلتفت اليه بكل جسده وذراعيه، وشعر بتلك اللسعات الحادة في جنبه الايسر، التي لازمته طول النهار تومض في احشائه مثل نجوم في سماء عراقية حلم بها أكثر من عشرين عاما. أنكفأ على جنبه ومد يده يتحسس البلل الساخن. ماذا أراد ان يقول له المدحدح قبل اختفائه؟ سمع ضحكة وصوت غاضب يطالب اخرين بالإسراع. وسمع خطوات تبتعد عنه. شعر بغيوم تهبط من سماوات بعيدة تقترب من مرمى قدميه، وروائح غريبة تحيط به، واصوات تقترب، وصوت يصرخ:
ـ سيدي هنا… شوفوا هنا. خطيه عرفت أنهم سيقتلونه.
وسمع صوت ناعم يرطن بإنكليزية سمعها كثيرا. اراد التساؤل: هل جاء سلفستر ستالوني؟
لكنه سمع أحدهم يقول بصوت أجش:
ـ انه فنلندي، هذا جواز سفره!
اراد ان يضحك. ان يطلق ضحكة قوية تجلجل لها شوارع العراق التي غاب عنها عشرين عاما، لكن الغيوم كانت تزداد اقترابا، والروائح صارت أكثر قربا. صوت سيارة تتوقف وابوه يردد دعاءه ويلم خرزات سبحته التي انفرطت مستغفرا ربه. وجه أمه كان مشرقا وعيناها تومضان ويدها الحانية تمسد له جبينه وتغلق له عينيه لينام. تمس جبينه خصلة شعر تنفر عن صدر كاعب، ويد ناعمة، صغيرة، تنشر قميصا مائيا عند ضفة نهر، و...!
هلسنكي ــ أيار 2003
* الكاتب يوسف أبو الفوز، من مواليد السماوة 1956. غادر العراق لأسباب سياسية عام 1979 الى الكويت وثم اليمن الديمقراطية، وعاد الى الوطن والتحق بقوات الأنصار الشيوعيين عام 1982 في كردستان العراق، وبقي هناك حتى أحداث (الانفال) صيف عام 1988، حيث بدأت رحلته مع التشرد والمنفى. مقيم ويعمل في فنلندا منذ مطلع عام 1995.
خلال مسيرته الادبية أصدر العديد من الكتب القصصية والروائية والأدبية، ومتواصل في نشاطه الاعلامي والادبي، وفي عام 2000، في هلسنكي، صدرت مجموعته القصصية (طائر الدهشة)، باللغة الفنلندية بترجمة الدكتور ماركو یونتونین، كما أنه كتب واخرج للتلفزيون الفنلندي أفلاما وثائقية عن العراق، اختير فيلمه (عند بقايا الذاكرة) 2006 لتمثيل فنلندا في مهرجان سينمائي في سويسرا. وانتخب لأكثر من دورة عضو الهيئة الإدارية لمنظمة الكتاب والفنانين الفنلنديين التي تأسست عام 1937.