كانون1/ديسمبر 05
   
التاريخ الشفوي للمجتمع العراقي .. بين التهميش والتجييش
    لا يكاد يخلو مجتمع من المجتمعات البشرية، سواء القديمة منها أو الحديثة، من حيازة جماعاته السوسيولوجية مكوناته الانثروبولوجية على رصيد / خزين معين مما يعرف بـ (التاريخ الشفوي)، الذي تعكس مضامينه حصيلة من خليط ذهني أسطوري وفولكلوري وسيكولوجي، مما استبطنه المخيال الجمعي وأرشفته الذاكرة التاريخية من علاقات اجتماعية وصراعات سياسية وإشكاليات تاريخية. واللافت أن مؤشر هذا الرصيد وذاك الخزين يتصاعد كما "ويتضاعف تأثيرا" كلما كان الطور الحضاري للمجتمع يشي بمظاهر التخلف عن ركب الشعوب والأمم الأخرى.
والجدير بالملاحظة ان المجتمع العراقي كان - ولا يزال - يطفو على مخزونات هائلة من مواريث ذلك التاريخ (الشفوي) المكتنز، ليس فقط كونه من أقدم المجتمعات التي ظهرت على وجه البسيطة وكانت الرائدة في ابتداع الحضارة والشروع في مسار التمدن فحسب، وإنما هو من أكثرها تعرضا "للغزوات الخارجية والاحتلالات الأجنبية وما استتبعها من تنكيل جسدي وحرمان اقتصادي وإذلال نفسي. هذا من جهة، يضاف الى ذلك من جهة أخرى، إن الجغرافيا العراقية هي من أقدم الجغرافيات البشرية التي استوطنت ربوعها مختلف الأقوام والأجناس والسلالات التي وفدت إليها من شتى أصقاع العالم القديم والحديث. وهو الأمر الذي أضاف الى مواريث الذاكرة التاريخية المتخمة أصلا"، سرديات أسطورية وتاريخية جديدة ساهمت في رفد ذلك المخزون بالكثير من الأحداث الغريبة والوقائع العجيبة التي حفلت بها الذاكرة وتميز بها المخيال. 
وعلى الرغم من اتساع مساحة (التاريخ الشفوي) في مطمورات وعينا الاجتماعي وانعكاسات ذلك وتداعياته على طبيعة علاقاتنا البينية ونمط تصوراتنا الذاتية، إلاّ أنه قلما روعيت هذه الخلفيات الفاعلة والتمثلات الشغالة حين يعمد أغلب المؤرخين للبحث في سيرورات التاريخ وديناميات تطوره أو تقهقره، اللهم إلاّ ما يتصل بشأن من شؤون السلطة الحاكمة ومصالح رموزها المهيمنة. ولهذا استمر الإعراض المقصود والإشاحة المتعمدة عن كل ما يمور في بواطن ذلك التاريخ المسكوت عنه، طالما ان مضامينه تعكس كل ما يمت بصلة لهموم ومعاناة الجماعات المقصيّة سياسيا والمهمشة اجتماعيا والمحرومة اقتصاديا. بحيث انه كلما أمعنت السلطات المسؤولة في إجراءات (التهميش) سياسيا واجتماعيا، كلما ارتفعت معدلات (التجييش) على جبهة السيكولوجيا.
ولعل ما زاد الطين بلّة، ان من خصائص (التاريخ الشفوي) كونه لا ينتظم ضمن مصفوفة معيارية موحدة يمكن توصيفه من خلالها، أو يمكن الاستدلال على مضامينه استنادا "الى وحدة الموضوعات التي تحتويها بنيته وتشي بها سيرورته. أي بمعنى ان السرديات التي يشتمل عليها لا تميل الى التعبير عما هو مشترك بين مكونات المجتمع الكلي، حيال ما وقع فيه من أحداث سياسية، وإزاء ما مرت عليه من وقائع اجتماعية. وإنما هو موسوم بخاصيتين أساسيتين؛ الأولى وهي غلبة طابع (الاختلاف) في المواقف و(التنوع) في الرؤى بحسب اختلاف وتنوع الجماعات التي يتشكل من تآصرها وتنافرها المجتمع. وأما الخاصية الثانية فهي الميل الى (الإخفاء) و(الاتقاء) بدلا "من (الإظهار) و(الإشهار)، بحيث ان (المخفي) في متون السرد التاريخي غالبا" ما يكون مستواه الكمي أعلى وتأثيره النوعي أبقى مما هو مدون في لائحة (المعلن).
ولهذه الأسباب نجد أن سرديات (التاريخ الشفوي) عادة ما تكون مصدرا من المصادر الأساسية التي تعتمد عليها (قوى المعارضة) السياسية، مثلما تكون سلاحا ماضيا من جملة أسلحتها المتعددة والمتنوعة التي تقارع بها سلطة الدولة الشمولية ورموز الحكم الدكتاتوري، ليس لأن الرؤية التي تحملها والإيديولوجية التي تمثلها تلك القوى تتوافق مع مضمون السرد المضمر في التواريخ الشفوية للجماعات المقصية والمهمشة ، بقدر ما تشكل مضامين هذا الأخير ذخيرة حجاجية لا يستهان بقوتها وقدرتها على إقلاق وتعكير حالة الاستقرار للأنظمة التسلطية، التي من جملة خصائصها عدم السماح بتعدد السرديات وتنوع الروايات التي عادة ما تحملها الجماعات (المناوئة) عن تاريخها وتاريخ خصومها . مثلما لا تتهاون تلك الأنظمة مع كل من يحاول التشكيك في سردياتها حتى ولو كانت مختلقة، أو يسعى لوضع علامات الاستفهام حول واقعية ادعاءاتها التاريخية حتى ولو كانت ملفقة!    
واللافت انه بقدر ما يخضع تاريخ الجماعات المنبوذة والمستبعدة لعمليات (التهميش) السياسي والاجتماعي التي تعمد لانتهاجها السلطات القمعية حيال تلك الجماعات ، بقدر ما تكون سرديات (التاريخ الشفوي) لهذه الأخيرة قابلة لكل ما من شأنه إثارة مخيالها واستنفار رموزها حيال مختلف إيحاءات (التهييج) السيكولوجي و(التجييش) الإيديولوجي، والتي غالبا "ما تكون المجتمعات المأزومة بيئة ملائمة وحاضنة نموذجية لاستفحالها واستشرائها، وهو الأمر الذي يجعل من تلك السرديات مادة رائجة للمساومات السياسية والمماحكات الإيديولوجية بين الأطراف المتصارعة، مثلما تشكل معطيات مرغوبة للاستثمار في مجالات التحشيد السيكولوجي والتعضيد الرمزي . 
ان مؤشر (التاريخ الشفوي) للجماعات المقموعة والحركات الممنوعة مرشح لأن يرتفع بمعدلات قياسية، كلما تعرض المجتمع الكلي الى أزمة سياسية أو محنة اقتصادية أو نازلة حضارية. وذلك على خلفية حالات القلق ومظاهر الفوضى التي يجد النظام السياسي نفسه خلالها قد زجّ في أتونها وقذف في خضمّها، وهو الأمر الذي يوحي لخصومه ومناوئيه بتراخي قبضته القمعية وتداعي هيبته السلطوية، بحيث يفضي ذلك الى إطلاق العنان لمخزونات تاريخها (الشفوي) بالتعبير الصارخ عن مضامينها المقموعة ورموزها المكبوتة، بعد أن كان الحضر السياسي والزجر الأمني يحول دون ظهورها وانطلاقها على نحو فاعل ومستقل.
وإذا ما أخذنا بنظر الاعتبار ظاهرة (الانفلات) التي شهدتها سرديات التواريخ (الشفوية) للجماعات العراقية المستبعدة، والتي كانت لغاية عام الغزو والاحتلال الأمريكي للعراق 2003، لا تعاني فقط من سياسات الإقصاء والتهميش عن شؤون المجال العام فحسب، وإنما تكابد من إجراءات الحضر والمنع لكل ما يتصل بشعائرها الدينية وطقوسها الاجتماعية أيضا". فإننا نكون قد توصلنا إلى استنتاج جوهري مفاده؛ انه كلما أمعنت السلطات الحاكمة في (تهميش) الجماعات المخالفة لها والمختلفة عنها بحيث تقصيها عن المشاركة في شؤون المجال الوطني العام، كلما ساهمت – بقصد أم بغير قصد – في ارتفاع معدلات (تجييش) السرديات الأسطورية والدينية والتاريخية لهذه الأخيرة، وجعلها من ثم بمثابة صواعق قابلة للتفجير والتشظي في الزمان والمكان اللذين يتم اختيارهما من قبل هذا الطرف أو، هذه الجماعة أو تلك.