الشعـــــــــــــــر من نتاج الحرية المطلقــــــــــة
دخل بودلير1821-1867 في قصائده المنثورة كدخوله إلى غابة غير معروفة، أرض غير ذي زرع، مليئة بالمصائد، تحفها المخاطر إلا أنها ساحرة وفاتنة. فلو كانت هذه المخاطر معروفة ومنظورة له لما زج نفسه فيها وتهيأ لها بصورة أكبر لكي يتخطاها. وربما قارئ قصيدة " صالون 1859 " لم يلحظ أنه ألقي به وسط حديث طويل عن فن الرسم، فسيرى أن خطورة ذلك لا تقل عن خطورة الشعر المنثور، كما أن ذلك سوف لا يكون تبريراً بقدر تعلق الأمر بالعمل الذي أخذه على عاتقه. والسبب أن يكون ديوان القصائد المنثورة استغرق تأليفه وصياغته مدة تربو على سنتين، علماً بأن بودلير نفسه لم ينظر إلى هذه القصائد في البداية سوى كونها تمرينات مجزأة. فنحن نعرف هنا بماذا يفكر فهو ربما برهن الحاجة إلى التفكير بهذه الصيغة ليعطي إشارة لنفسه أو ليكسب رضا القارئ.
بالإضافة إلى أن بودلير يدرك تماماً أن مثل هذه الصيغة تحفها المخاطر وهي حسب تشبيهه بأنها خطرة أكثر من خطورة الحية المطلقة. وهنا تجد الكلمة صداها فيما قيل عن قصائده المنثورة والتي كانت عبارة عن بداية حرة وأعرب بودلير عن رأيه بهذا النمط الشعري وقال بأنه شعر غريب ومن نتاج الحرية المطلقة فهو إذن شعر مطلق.
الآن ان هذه المطلقات نسبية قبل كل شيء ماذا تعني الحرية المطلقة إذن؟ فإن كانت تعني أن يقوم الإنسان بوضع قواعد معينة خاصة به فإن هذا المفهوم سيتماشى مع الشعر المنثور. وهنا يكمن الخطر الرئيسي الذي يمكن ملاحظته ويقع ضمن وحي ثابت وعصمة معينة يؤمن بها. (ولكن الوحي والعصمة تمثلان الشعر نفسه). فإن هذه القواعد تجد مصدرها. والقاعدة بحد ذاتها وبالمعنى الرهباني تعد سامية، غير مرئية وغير معبر عنها. ويدخل ذلك كله ضمن الصفة المطلقة.
ان هذه القاعدة لم يكن يعرفها أحد من قبل ولذلك لم يعترف بها أحد ولهذا السبب يكون شعره غير معروف وسيبعث الكثير من الشكوك لدى الشاعر منذ الخطوة الأولى التي يخطوها. فالصعوبات ونضوب القدرة دفعتا الشاعر إلى كتابة قصائده المنثورة.
فهي مجازفة اذن وفي الوقت نفسه تمثل محنة يمر بها الشاعر. لقد أدرك بودلير ذلك كإدراكه للنقد الموجه إلى ديوان " أزهار الشر " ويتحدث دائماً عن تبعاته وتكرار ذلك يعد تعبيراً طبيعياً عن إعطاء صورة واضحة عن خلجات نفسه ولكن ضمن مدى معين. أما فيما يتعلق بفكرة التماثل عند بودلير فإنها ظاهرية فقط ولكنها تحمل بين طياتها ثقل كبير ومعارضة، ويمكن القول بأنها تحمل ثورة. أما بالنسبة لديوان "أزهار الشر" فإنه يمثل منعطفاً كبيراً. فبدأ بعد إنجازه ديوانه مباشرة بفتح مسلك آخر شريطة ألا يكون قد سلك من قبل وكان تواقاً إلى إعطاء التعبير الشعري صيغة جديدة أو بالأحرى إبداعاً شعرياً آخر. غير أنه أخذ المبادرة بمحاكاة نفسه إن صح التعبير بطريقة غريبة لطرح أفكاره العظيمة ممزوجة بالمشاعر المؤلمة ذات النبرة غير المتناسقة وأصوات متنافرة.
لقد كان يعبّر عن نفسه بصورة واضحة محاولاً التقليل من الجهود التي يبذلها في القيم بذلك حيث اتخذت هذه الصيغة طابع التقديم والإهداء اللذين يشوبهما مشاعر فظة ومؤلمة تجمع ما بين الشك من جهة والكبرياء من جهة أخرى. وبات ذلك جلياً بعد ظهوره مقلداً تارة ومعارضاً تارة أخرى. (أي الشاعر الذي يقلد أثراً ما) ومن الجدير بالذكر أنه لم يبتعد عن ذاته في كل نتاجاته وعندما نتحدث عن ذاته لا يخفى علينا أنه الشاعر الذي كتب ديوان " أزهار الشر " نراه الآن يبحث عن أسلوب آخر، ومن هذا المنطلق اتجه نحو صيغة جديدة سبق له أن فكر فيها وأرادها دون أن يعرفها. والقصائد المنثورة هي القصائد الأكثر جاذبية بسبب عناوينها وما تكتنفه من سخرية()، فإن بعض قصائده تعطي جواباً لبعض التساؤلات التي تدور في خلجات نفسه . كما أن قصيدة " الدعوة إلى الأسفار " تقدم صورة ساخرة لشراهة عنيفة لكوكان وحتى الأغنية الغرامية فإن تأثير غوته يبدو فيها واضحاً.
تمثل القصائد النثرية من جهة أخرى شكلاً جديداً يختلف عن النثر الشعري كما تحفها بعض المخاطر التي لم يكن بودلير قادراً على التخلص منها. إلا أن القارئ تأكد من أن القصائد المنشورة لها من القوة الشعرية ما يجعلها قصائد جميلة جداً. وبذل الشاعر جهوداً لكي يقدم قصائد منثورة تلقى قبولاً حسناً من لدن القارئ فضلاً عن أن القصائد التي سطّرها نثراً لها من القوة التعبيرية التي تعطيها قيمة شعرية عالية إذا أخضعها إلى وزن محسوس وتتضمن مقاطع شعرية متساوية، ولدى الشاعر قدرة عالية بسبب وعيه التام لنظم قصائد شعرية منتظمة إلا أنها نظمت نثراً. فالكلمات والتعابير التي يستعملها في قصائده المنثورة تضفي الكثير من القيمة الشعرية، وباستطاعة القارئ أن يكشف ذلك بنفسه عند مراجعته لها.
فالصور والمناظر الخلابة التي وصفها الشاعر نثراً مسترسلاً لا يمكن ان تكون إلا شعراً. والقصائد المنثورة تضاهي القصائد المنظومة شعراً ومن الممكن أن تأخذ صيغة شعرية في حالة إعادة صياغتها. إلا أن بودلير كان يفكر دائماً بالخطر الذي تكتنفه هذه العملية وأشار إليه لكيلا يورط القارئ أو يخدعه. فإذا كانت قوة هذه القصائد قد ذكرت في ديوان "أزهار الشر" فإن ضعفها موجود في ديوان "سويداء باريس" وهذا يعني أن ثلاث من هذه القصائد لها مثيلاتها من قبل. فيجب التحدث عن قصائد متنوعة إلا أن ذلك لا يخلو من مخاطر جمة أجبرت بودلير الابتعاد عنها مكرهاً. ومع ذلك بذل جهوداً كبيرة ومضنية في هذا المجال. ولعدم المخاطرة والرضوخ للأوزان التي يعدها دائماً وحياً وإلهاماً بالنسبة له فإنه يبحث عن التقطيعات ويحبذ الفردية منها.
ويعد النقد الموجه إليه بمثابة الكشف عن دوافعه، فإن قصائده المنثورة تكشف الكثير نلاحظ مثلاً أن قصيدة "الساعة" تبدأ بخيال مبدع وغريب في الوقت نفسه، وهكذا بقية القصائد، كما تشبه سرعة أسلوب قصائده المنثورة الأسلوب الصحفي وتكون بمثابة نثر سردي تارة وربما ركيكاً تارة أخرى كقوله: "عندما نبتعد عن محل بيع السيكاير" أو قوله في محل آخر: "إنك تتبعيني يا عزيزتي" أو قد تكون قصائده مقتطفات لاعتراف بخلجات تدور في قلب خال أو أنها تتناول مواضيع معروفة لدى القارئ إلا أن طريقة تقديمها غريبة عليه.
وتعكس قصيدة "مادموزيل بستوري" اعترافاً للشراسة والفضاضة بدون أية تطرية فنية كما انها تعبّر عن طريقة قلقه في سرد قصة حب تصل إلى حد التشريح والتحليل "فالوحش البري يحلم بالدم".
إن الكشف عن الذات الذي تضمنته هذه القصائد يعد كشفاً كاملاً وقاسياً إلا أنه ممزوج طوعي ولكن لا شعوري أيضاً وفي الوقت نفسه "سويداء باريس" هي الأخرى مزدوجة، فهذه القصيدة مع قصيدة "أزهار الشر" تعدان غرفة مزدوجة للشاعر. فهي تحريف للحقيقة التي هي مزدوجة أيضاً.
وتبسيطاً لذلك، فإنها غرفة للواقع، غرفة الحواجز، فهي إذن الغرفة الروحية. ذلك لأن "سويداء باريس" بالنسبة له غرفة مزدوجة، والعنوان ذو دلالة كبيرة فقد أعطاه بادئ الأمر إلى القصيدة رقم (28) بعنوان "المثال والواقع" إلا أن هذا الواقع هو سيريالي بحد ذاته. فالغرفة المزدوجة هي حقيقة طيفية فبين حلم بالجنة والكابوس لا يوجد حيز لأي شيء. ان المدينة والحياة حيث يمر طيف الليل. بدأت أحلامها، وكان بودلير يفكر في ذلك كالظل الذي لا يراه الآخرون، فبالنسبة له المرور فقط. فالرحلات التي يشرحها بكل غموض في بلدان غامضة تتعدى كونها رحلات خيالية. والشخصيات التي تقابلها والمغامرات التي يقوم بها "الانا" الموجود في القصيدة و"الانا" التي تمثل الشاعر نفسه تعد من ميزات الأحلام. فمن ضمن دواوين الشعر لبودلير لا يخضع ديوان "سويداء باريس" للابتهال المزدوج
لـ " الإله والشيطان " وللحركة المستديمة بين الأعلى والأدنى ولا إلى الاقتسام في منتصف الليل حيث تجد الروح الوحدة شاذة في تمزقها النفسي.
إن ديوان "سويداء باريس" يعكس الاضطرابات ومدياتها القصوى التي كانت عفوية فهي تتمثل بالوحدة التي لا يمكن علاجها ولكن فيها من المتعة الكثيرة للشاعر فمن بين
"زجاج النافذة" التي تمثل انفصالاً عن الجانب الآخر وعندما يكون زجاج النافذة سحرياً ويعرف بائعها أين يضعها وبالطريقة التي تعكس الألوان فهي في هذه الحالة تكون أقل من تجميع الواقع وأكثر من تغيير شكله. إلا أن الغرفة المزدوجة "عند بودلير" خالية من النوافذ أي أنها تخفي نورها فهي غرفة مرايا، ألم يكفها مرآتان لفتح ازدواجية متناهية؟ ففي قصائد بودلير الغجرية هنالك تساؤلات عديدة ولكن هنالك جوابين تقدمهما القصائد تلك: الدعوة إلى الأسفار من جو إلى آخر والروح التي تصمت طويلاً لكي تصرخ في النهاية قائلة: " في أي مكان خارج العالم " وهذا جيد لأنه يمثل الغرفة المزدوجة. ومن جهة أخرى المعشوقة الوحيدة التي تتبوأ مقعداً هنالك والتي تتنكر بصورة متناهية مع وهج شموعها ووجها المزدوج من مرآة إلى أخرى وتغادر أخيراً من قناعها وتبدو عارية تماماً لتقول: "كل شيء فانٍ إلا الموت"؟
عن كتاب: ايفان فلورين بودلير: سويداء باريس
حسيب الياس حديد: أكاديمي ومترجم معروف / جامعة النور- الموصل