كانون1/ديسمبر 05
   
في داخلي كاتب يربط شعبه بشعوب العالم
    غَيّبَ الموت عن عمرٍ ناهزَ 88 عاماً، الكاتب الألباني إسماعيل كاداريه، الذي عُرِفَ بمواقفه السياسية الملتبسة والمثيرة للجدل.
أدناه ترجمة للقسم الأكبر من المقابلة التي أجرتها معه مجلة (باريس ريفيو) ضمن محوّر (فن الرواية)، وفيه يتحدث عن مواقفه في قضايا الأدب والسياسة والمجتمع*.
 
في عام 1970 اجتاحت أجواء باريس الأدبية رواية لكاتب ألباني غير معروف. الرواية هي "جنرال الجيش الميت". والتي تدور حول جنرال إيطالي يعود إلى ألبانيا بعد الحرب العالمية الثانية لكي يعثرَ على جثثِ الجنود الإيطاليين الذين قُتلوا هناك وإعادتِهمْ إلى إيطاليا لدفنِهم. تم الترحيب بالروايةِ بوصفها تحفة أدبية فنية، ودُعيَ مؤلفها إلى فرنسا، حيث رحّبَ بهِ المثقفون الفرنسيون بوصفه صوتًا أصيلًا وقويًا من خلف الستار الحديدي. تُرجمت الرواية إلى عشراتِ اللغاتِ وكانت مَصدرَ إلهامٍ لفيلمين: أحدهما يحمل عنوان الرواية نفسه من بطولةِ ميشيل بيكولي، والآخر "الحياة ولا شيء آخر" لبرنارد تافيرنييه. ومنذ ذلك الحين تُرجِمتْ العديد من رواياتِه ومجموعاتِه الشعرية ومقالاته إلى الفرنسيةِ والإنجليزيةِ ولغات أخرى، وأصبح من كبارِ الكُتاب في العالم، فضلاً عن ترشيحِه لجائزةِ نوبل عدة مرات.
وِلدَ الكاتب إسماعيل كاداريه ونشأ في مدينة جينوكاستر في ألبانيا. قرأ الأدبَ في جامعة تيرانا وأمضى ثلاث سنوات في دراساتهِ العليا في معهد غوركي في موسكو. كانت رواية "الجنرال" روايته الأولى، والتي نُشرتْ عند عودتهِ إلى ألبانيا عام 1962، عندما كان في السادسةِ والعشرين من عمرِه. تَمّتْ مقارنة كاداريه بكافكا وأورويل، لكن صوته بقيَّ أصيلاً، وعلى الرغم من عالميته، فأنه كان متجذّراً بعمق في أرضه. استخدمَ كاداريه مجموعةً متنوعةً من الأدواتِ الأدبية الفنية - الرمزية، والهجاء، والابعاد التاريخية، والأساطير - للهروبِ من الرقابةِ. تُعَدْ أعماله بمثابة سردٍ لتلكَ العقود الرهيبة على الرغمِ من أن قصصه غالبًا ما كانت تقع في الماضي البعيد وفي بلدانٍ مختلفة. تدورُ أحداث اثنتين من رواياتِه الأكثر شهرةً، "قصر الأحلام" و"الهرم"، على التوالي في عهدِ الإمبراطوريةِ العثمانيةِ وفي مصر القديمة، في حين تُشير رواية "الشتاء الكبير" و"الحفلة الموسيقية" بوضوحٍ إلى انفصالِ البانيا عن الإتحاد السوفييتي في عهدِ خروشوف وعن الصينِ بعد وفاة ماوتسي تونغ. غادر إسماعيل كاداريه ألبانيا عام 1990 واستقرَ في باريس. وفي عام 1996، تم انتخابه عضوًا مشاركًا في الأكاديمية الفرنسية للعلوم الأخلاقية والسياسية ليحُلَ محل الفيلسوف البريطاني النمساوي المولد كارل بوبر، الذي توفي في ذلك العام.
معروف عن كاداريه عدم تقبّله الحمقى بسرور، لكنني وجدتهُ إنساناً لطيفًا ومهذبًا وصبورًا إلى حدٍ ما مع شخص مثلي لا يعرف بلده وأدبه، اللذين يهتم بهما بشغف. يتحدث كاداريه الفرنسية بطلاقة وبلكنة مميزة وبصوت هادئ. 
  • أنت أول كاتب ألباني معاصر يحقق شهرة عالمية. ألبانيا ـ كما يعرف الجميع ـ بلد صغير يبلغ عدد سكانه ثلاثة ملايين ونصف المليون نسمة ويقع على أطراف أوروبا. لذا فإن سؤالي الأول يتعلق باللغة الألبانية. ماهي هذه اللغة؟
كاداريه: يعيش نصف السكان الألبان في منطقة كوسوفو. في المجمل، يتحدث عشرة ملايين شخص في العالم اللغة الألبانية، وهي إحدى اللغات الأوروبية الأساسية. أنا لا أقول هذا من باب الفخر الوطني، بل هو حقيقة. من الناحية اللغوية، هناك ست أو سبع عائلات أساسية من اللغات في أوروبا: اللاتينية، الجرمانية، السلافية، البلطيقية (التي يتم التحدث بها في لاتفيا وإستونيا)، وثلاث لغات بلا عائلات، إذا جاز التعبير، اليونانية والأرمنية والألبانية. ولذلك فإن اللغة الألبانية أكثر أهمية من البلد الصغير الذي يتم التحدث بها، لأنها تحتل مكانةً هامًةً في رسم الخرائط اللغوية في أوروبا. أما الهنغارية والفنلندية فهما ليستا لغات هندوـ أوروبية. الألبانية مهمة أيضًا كونها السليل الوحيد للغة الإيليرية القديمة. في العصور القديمة كانت هناك ثلاث مناطق في جنوب أوروبا: اليونان وروما وإيليريا. الألبانية هي الناجية الوحيدة من اللغات الإيليرية، وهذا هو السبب الذي جعلها دائماً ما تثير اهتمام كبار اللغويين في الماضي. كان أول شخص قام بدراسة جادة للغة الألبانية هو الفيلسوف الألماني جوتفريد لايبنتز في عام1695.   
  • وهي التي حاكاها فولتير ساخراً في رواية "كانديد" حيث قال الدكتور بانجلوس:" كل شيء يسير على ما يرام في أفضل العوالم الممكنة."
كاداريه: بالضبط. ومع ذلك، لم تكن ألبانيا موجودة في ذلك الوقت ككيان منفصل؛ وكانت جزءاً من الإمبراطورية العثمانية مثل بقية دول البلقان، بما في ذلك اليونان. لكن هذا العبقري الألماني وجد اللغة مثيرة للاهتمام. وبعده، أنتج باحثون ألمان آخرون دراسات طويلة عن الألبانية، مثل فرانز بوب، الذي كان كتابه مفصلاً للغاية.
  • ماذا عن الأدب الألباني؟ ما هو أصله؟ هل هناك دانتي أو شكسبير أو غوته ألباني؟
كاداريه: إن مصادره شفهية في الأساس. نُشر أول كتاب أدبي باللغة الألبانية في القرن السادس عشر، وكان عبارة عن ترجمة للكتاب المقدس حيث كانت البلاد آنذاك كاثوليكية، وبعد ذلك ظهر بعض الكُتّاب. إن الأب المؤسس للأدب الألباني هو كاتب القرن التاسع عشر" نعيم فراشيري". ومن دون أن يتمتع بعظمة دانتي أو شكسبير، فهو مع ذلك المؤسس، والشخصية الرمزية. كتب قصائد ملحمية طويلة، وكذلك شعرًا غنائيًا، في محاولة منه لإيقاظ الوعي الوطني لألبانيا. بعده جاء "جرجي فيشتا". يمكننا القول أن هذين الكاتبين هما عملاقا الأدب الألباني، اللذين يدرسُهما الأطفال في المدرسة. بعد ذلك جاء شعراء وأدباء آخرون قدموا أعمالاً ربما أفضل من هذين الكاتبين، لكنهم لا يشغلون المكانة ذاتها في ذاكرة الأمة.
  • استولى الأتراك على القسطنطينية عام 1454، ومن ثم بقية دول البلقان واليونان. ما هو تأثير اللغة التركيّة على الألبانية؟
 كاداريه :لا يكاد يكون لها أي تأثير. باستثناء المفردات الإدارية أو في الطبخ، كلمات مثل كباب، مقهى، بازار. لكن لم يكن لها أي تأثير على بنية اللغة لسبب بسيط هو أنهما مثل آلتين مختلفتين تمامًا، لا يمكن لأحدهما استخدام قطع غيار الأخرى. لم تكن اللغة التركية معروفة في أي مكان خارج تركيا، فقد تم بناء اللغة التركية الحديثة على يد كُتّاب أتراك في القرنين التاسع عشر والعشرين، في حين أن اللغة التركيّة الإدارية الجافّة لم تكن لغة حيّة، وبالتالي لم يكن من الممكن أن يكون لها أي تأثير على اللغات الأخرى في الإمبراطورية العثمانية. لقد التقيت بكُتّاب أتراك أخبروني أن لديهم مشاكل عديدة في لغتهم. 
  • ومن ناحية أخرى، دخَلَ قدر كبير من المفردات الأجنبية إلى اللغة التركية – الفارسية والعربية والفرنسية وغيرها. قبل العصر الحديث، كان المؤلفون الأتراك يكتبون باللغة الفارسية، أو باللغة العربية إذا كان الموضوع يتعلق باللاهوت.
 كاداريه: بالنسبة لي ككاتب، اللغة الألبانية هي ببساطة وسيلة غير عادية للتعبير - فهي غنيّة ومرِنة وقابلة للتكيّف. وكما قلت في روايتي "سبيريتوس"، فإن لها أشكالًا لا توجد إلا في اليونانية الكلاسيكية، مما يجعل المرء على اتصال بعقلية العصور القديمة. على سبيل المثال، هناك أفعال ألبانية يمكن أن يكون لها معنى نافع أو معنى ضار، تمامًا كما هو الحال في اليونانية القديمة، وهذا يُسهّل ترجمة التراجيديا اليونانية، وكذلك شكسبير، حيث يُعتبر الأخير أقرب مؤلف أوروبي لكتّاب التراجيديا اليونانيين. عندما يقول نيتشه إن التراجيديا اليونانية انتحرت وهي صغيرة لأنها عاشت مائة عام فقط، فهو على حق. ولكن في الرؤية العالمية فقد استمرت حتى شكسبير وتستمر حتى يومنا هذا. ومن ناحية أخرى، أعتقد أن عصر الشعر الملحمي قد انتهى. أما الرواية فهي لا تزال شابة. لقد بدأت بالكاد. 
  • ومع ذلك فإن موت الرواية كان متوقعاً منذ خمسين عاماً.
كاداريه: هناك دائمًا أشخاص يتحدثون كثيرًا عن هذا الهراء! لكن من منظور عالمي، إذا كانت الرواية تريد أن تَحِل محل النوعَينْ المُهِمّينْ من الشعر الملحمي – الذي اختفى – والتراجيديا – التي تستمر – فهي لم تبدأ بعد، ولا يزال أمامها ألفي عام من الحياة. 
  • يبدو لي أنك حاولت في أعمالك دمج التراجيديا اليونانية في الرواية الحديثة.
كاداريه: بالضبط. لقد حاولت أن أصنع نوعًا من التوليف بين التراجيا الكبرى والغرابة، حيث تُعتَبَرْ رواية (دون كيشوت) المثال الأسمى له، وهي واحدة من أعظم أعمال الأدب العالمي. 
  • ومنذ ذلك الحين انقسمت الرواية إلى عدة أنواع .....
كاداريه: كلا بالطبع! بالنسبة لي، هذه الأقسام النوعية غير موجودة. قوانين الإبداع الأدبي فريدة من نوعها؛ فهي لا تتغيّر، وهي نفسها بالنسبة للجميع في كل مكان. أعني أنه يمكنك أن تروي قصة تغطي ثلاث ساعات من حياة الإنسان أو ثلاثة قرون – فهي تصل إلى نفس الشيء. إن كل كاتب يخلق شيئًا أصيلًا بطريقة طبيعية، يخلق أيضًا وبشكل غريزي التقنيّة التي تناسبه. لذا فإن جميع الأشكال أو الأنواع طبيعية.
إسْمَعْ، أعتقد أنه لم يكن هناك سوى تغيير حاسم واحد في تاريخ الأدب: الانتقال من الشفهية إلى الكتابة. لفترة طويلة كان الأدب يتحدث فقط، ثم فجأة جاءت الكتابة مع البابليين واليونانيين. لقد غيّر ذلك كل شيء، ففي السابق، عندما كان الشاعر يقرأ قصيدتَه أو يُغنّيها ويستطيع تغييرها في كل أداء كما يشاء، كان حراً. وعلى المنوال نفسه، كان سريع الزوال، حيث تغيرت قصيدته في النقل الشفهي من جيل إلى جيل. لكن بمجرد كتابته، يصبح النص ثابتًا. يكتسب المؤلف شيئًا ما من خلال قراءته، لكنه يفقد أيضًا شيئًا ما: الحرية. وهذا هو التغيير الكبير في تاريخ الأدب. إن التطورات الصغيرة، مثل تقسيم الفصول والفقرات، وعلامات الترقيم، ليست ذات أهمية نسبيًا؛ إنها مجرد تفاصيل. على سبيل المثال، يقولون إن الأدب المعاصر ديناميكي للغاية لأنه يتأثر بالسينما والتلفزيون وسرعة الاتصا ل. لكن الصحيح هو العكس! فلو قارنا نصوص العصور القديمة اليونانية مع أدب اليوم، سنلاحظ أن الكلاسيكيات عملت في تضاريس أكبر بكثير، مرسومة على قماش أوسع بكثير، وكان لها بُعد أكبر وبلا حدود حيث تنتقل الشخصية بين السماء والأرض، من إله إلى بشر، وتعود مرة أخرى، في أي وقت من الأوقات وعلى الإطلاق! من المستحيل العثور على سرعة العمل والرؤية الكونية الموجودة في صفحة ونصف من الكتاب الثاني للإلياذة لدى كاتب حديث. القصة بسيطة: لقد فعل أجاممنون شيئا أثار استياء زيوس، الذي قرر معاقبته. يستدعي رسولًا ويطلب منه أن يطير إلى الأرض ويجد الجنرال اليوناني المسمى "أجاممنون" وليضع حلمًا كاذبًا في رأسه. يصل الرسول إلى طروادة، ويجد أجاممنون نائمًا، ويصبُ حلمًا كاذبًا في رأسه كالسائل، ويرجع إلى زيوس. في الصباح، يتصل أجاممنون بضباطه ويخبرهم بأنه رأى حلمًا جميلاً وأن عليهم مهاجمة أحصنة طروادة. بعدها يتعرض لهزيمة ساحقة. كل ذلك في صفحة ونصف! يمر المرء من عقل زيوس إلى عقل أجاممنون، من السماء إلى الأرض. أي كاتب يمكن أن يخترع ذلك اليوم؟ حتى الصواريخ الباليستية ليست بهذه السرعة!  
  • ومع ذلك، فقد كانت هناك أحداث أدبية، مثل الحداثة ـ جويس، وكافكا.
 كاداريه: كان كافكا كلاسيكيًا جدًا، وكذلك جويس. لقد فشل جويس عندما أصبح حداثيًا حقًا في رواية" يقظة فينيغان". لقد ذهب بعيداً ولا أحد يحب هذا الكتاب. وحتى نابوكوف، الذي كان من أشد المعجبين بجويس، قال ان هذه الرواية لا قيمة لها. هناك اختراعات وابتكارات غير مقبولة، فهناك شريان لا يمكن قطعه دون عقاب، كما لا يمكن قطع جوانب معينة من الطبيعة البشرية. رجل يلتقي بامرأة ويقعان في الحب. في هذا الحب هناك كل أنواع الاحتمالات والتنوّع، لكن لا يمكن للمرء أن يتخيّل أن لهذه المرأة جسد لمخلوقٍ آخر. إذا كان هناك انفصال تام عن الواقع، فهذه هي النهاية، ويدخل المرء إلى عالم العلامات.  
  • هل تقصد أن هناك استمرارية معينة في الإبداع الإنساني؟
كاداريه: بالضبط. نحن بطريقة ما محاصرون بماضي البشرية؛ فنحن لسنا بحاجة إلى معرفة الحالة النفسية للتماسيح أو الزرافات، على سبيل المثال. قد يكون الماضي عبئاً، ولكن ليس هناك ما يمكننا القيام به حيال ذلك. كل هذا الضجيج حول الابتكارات والأنواع الجديدة لا معنى له. هناك أدب حقيقي ثم هناك الباقي.  
  • لقد تحدثت أيضًا عن "الخَلقْ السلبي". ماذا تقصد بذلك؟
كاداريه: الخَلقُ السلبي للكاتبِ هو ما لا يكتبه. أنت بحاجةٍ إلى موهبةٍ كبيرةٍ لتعرفَ ما لا ينبغي عليكَ كتابتهُ، وفي وعي الكاتب تكون الأعمال غير المكتوبة أكثر عددًا من تلك التي كتبها. يمكنك الاختيار. وهذا الاختيار مهم جداً. ومن ناحية أخرى، لا بد من التحرر من هذه الجثث، ودفنها، لأنها تمنع المرء من كتابة ما ينبغي عليه أن يكتبه، مثلما يكون من الضروري إزالة الخراب لتهيئة الموقع للبناء. 
  • هذا يذكّرني بالكاتب سيريل كونولي الذي قال: "الكتب التي لم أكتبها أفضل بكثير من تلك الكتب التي كتبها أصدقائي". ولكن دعنا نتحدث عن بداياتك. طفولتك أولاً: كنت صغيراً جداً عندما اندلعت الحرب، وبعدها تغيّر كل شيء في ألبانيا. 
كاداريه: اتّصفتْ طفولتي بالغِنى، فقد شهدت أحداثًا كثيرة. بدأت الحرب عندما كنت في الخامسة من عمري. عشت في جينوكاستر، وهي مدينة جميلة جدًا، كانت تمر عبرها الجيوش الأجنبية، وكان ذلك مشهدًاً مستمرًا - الإيطاليون واليونانيون. . . قَصفَ الألمان المدينة، وانتقل الإنجليز من يد إلى أخرى. بالنسبة للطفل، كان الأمر مثيراّ للغاية. كنا نعيش في منزل كبير يحتوي على العديد من الغرف الفارغة حيث كنا نلعب، وهو جزء مهم من طفولتي. كانت عائلة أبي متواضعة – كان والدي رسولًا للمحكمة، أي ساعي بريد المحكمة – لكن عائلة أمي كانت غنية جدًا. ومن المفارقة أن عائلة والدتي كانت شيوعية، بينما كان والدي محافظًا ومتشددًا. كنا نعيش في منزل متواضع، ولكن عندما ذهبت إلى منزل جدي لأمي كنت ابنًا لعائلة غنية. رغم أنَ والدي معارضاً. ووالدتي وعائلتها يؤيدون النظام. فأنهم لم يتشاجروا يوماً بسبب ذلك، بل كانوا يمازحون بعضهم البعض بالسخرية والتهكّم. في المدرسة، لم أكن أنتمي إلى الأطفال من الخلفيات الفقيرة المؤيدة للشيوعية، ولا إلى أطفال الأسر الغنية التي كانت خائفة من النظام. لكنني كنت أعرف كلا الجانبين. وهذا ما جعلني مستقلاً، ومتحرراً من عُقدْ الطفولة. 
  • بعد المدرسة انتقلتَ إلى العاصمة تيرانا ودرستَ الأدبَ في الجامعة، ثم ذهبت إلى معهد غوركي في موسكو. كان ذلك في زمن خروتشوف، عندما كان هناك نوع من التحرر. كيف وجدت الساحة الأدبية في موسكو؟
 كاداريه: تم إرسالي إلى معهد غوركي لأصبح كاتبًا رسميًا للنظام، حيث كان المعهد مصنعاً لمدرسة الواقعية الاشتراكية. لقد استغرقوا ثلاث سنوات لزرع أفكار جديدة، لكني كنتً محصنّاً بالفعل بما قرأته سابقاً. عندما كنت في الحادية عشرة من عمري كنت قد قرأت ماكبث، الذي صدمني كالبرق، والكلاسيكيات اليونانية، التي لم يعد لأي شيء بعدها أي قوة على روحي. ما كان يحدث في "إلسينور" أو على أسوار طروادة، بدا لي واقعياً وبشكلٍ كبير. كان جميع الكُتاب ضمن الخط الثقافي للدولة أي الواقعية الاشتراكية، عدا بعض الاستثناءات مثل كونستانتين باوستوفسكي، وتشوكوفسكي، ويفتوشينكو.
أثناء إقامتي في المعهد كتبت رواية بعنوان “المدينة بلا دعاية”. عندما عدت إلى ألبانيا كنت قلقاً من إظهارها لأي شخص. قمت بنشر مقتطف قصير في إحدى المجلات بعنوان "يوم في المقهى"، والذي تم حظره على الفور. لحسن الحظ أن النسخة الأصلية للقصة موجودةٌ عندي؛ وإلا فليس هناك اليوم من يصدّق أنني كاتبها. لقد كانت قصة اثنين من المحتالين الأدبيين اللذين يريدان تزوير نص لإثبات أنه من الممكن تكييفه مع ماهو مطلوب، وبالتالي تعزيز حياتهم المهنية. لقد استُغِلتْ المشكلة الأساسية في قلب الثقافة الاشتراكية هذه القصة موجودة اليوم بحذافيرها في المجلد السادس من أعمالي الكاملة بالفرنسية، ولم يتم تبديل كلمة واحدة فيها.  
  • تناولتْ روايتك الثانية "الوحش" موضوع القلق السياسي. كيف تم تلقّي ذلك؟
كاداريه: "الوحش" هي قصة بلدة يظهر فيها صباح أحد الأيام حصان طروادة. في داخل الحصان، توجد شخصيات من العصور القديمة مثل يوليسيس، وهم ينتظرون فقط اليوم الذي ستسقط فيه البلدة. لكني فعلت شيئاً غريباً: طروادة لا تسقط؛ الحصان يبقى هناك إلى الأبد. الناس يعيشون في قلق دائم. يقولون: كيف سنعيش؟ هذا مستمر منذ ثلاثة آلاف سنة وما زال الحصان هناك. إنه أبدي. ماذا يمكننا أن نفعل؟ يتهامسون عن مؤامرات وتهديدات، والحياة ليست طبيعية. لأن الأنظمة السياسية تقوم على هذا الجنون الارتيابي حول التهديدات الخارجية، فهي تحتاج دائماً إلى عدو لتبرير ما تقوم به.
  • كيف تمكّنت من ترجمةِ ونشرِ قصة "الجنرال" في فرنسا؟
 كاداريه : في ألبانيا، كما في جميع دول أوروبا الشرقية، كانت هناك منظمة مسؤولة عن ترجمةِ عدد من الكتب إلى بعض اللغات الأجنبية المهمة. لذا فأنهم قاموا بترجمةِ كتابي إلى الفرنسية فقد رأى الصحفي بيير باراف الكتاب، وأعجبه، وأوصى به لناشر فرنسي.
  • لننتقل إلى تأثيراتك. أولاً، اهتمامك بالتراجيديا اليونانية، وخاصة أسخيلوس الذي كتبت عنه مقالاً طويلاً بعنوان "أسخيلوس أو الخاسر الأبدي". لماذا أسخيلوس؟
 كاداريه: رأيت وجود أوجه تشابه بين المأساة اليونانية وما كان يحدث في بعض البلدان، وقبل كل شيء جو الجريمة والصراع على السلطة. خذ مثلاً منزل أتريوس، حيث تؤدي كل جريمة إلى جريمة أخرى حتى يُقتلْ الجميع.  
  • كتابك " الشتاء الطويل " هو الوحيد، الذي تتناول فيه الوضع السياسي مباشرة. مع إنك استخدمت الكثير من التمويه - الأسطورة والرمز والفكاهة. أنا أفكر في قصتّي "الهرم" و"قصر الأحلام"، والتي تدور أحداثهما في مصر القديمة وفي العصر العثماني على التوالي. في الهرم، يريد فرعون خوفو بناء هرم يكون أكبر ويستمر لفترة أطول من أي هرم آخر - مشروع يبرر ويضفي الشرعية على كل تضحية وكل قمع. في "قصر الأحلام"، تذهب السيطرة وتصنيف الأحلام بإتجاه خاطئ. هل فَهِمَ قراؤك ما تقصده؟
 كاداريه: نعم. لقد فَهِموا بوضوح كل شيء، ولهذا السبب تم حظر "قصر الأحلام
 
  • تأثرت بالكتّاب الذين استخدموا نفس الوسائل والحِيّل، مثل بولجاكوف في "المعلم ومارجريتا"، وزامياتين في "نحن " التي ألهمت رواية أورويل 1984، وكذلك "هرابال " و|كونديرا"، أو كافكا في "القلعة والمحاكمة " – وهي النماذج الأولية للسياسة القمعية والنظام المغلق؟
كاداريه: لقد قرأتها وكنت على دراية ببعض أوجه التشابه. وفي الوقت نفسه، كنت حريصًا على عدم استخدام الحيل المبتذلة. كان عليّ أن أقتنع بأنه سيكون أدبًا حقيقيًا، برؤيةٍ عالمية. وبهذا المعنى تُعتبر رواية “قصر الأحلام" ناجحة.  
  • بعد نجاح كُتبك في الغرب، كان بإمكانك مغادرة البلاد. هل سبق وأن تم إغراؤك؟ في كتابك "الربيع الألباني" الصادر عام 1992، ذكرت أنك كنت على وشك البقاء في فرنسا عدة مرات.
كاداريه: لقد جئت إلى فرنسا بِنيّة الإقامة. ثم أدركت أن ذلك غير ممكن. كان هناك خطر الانفصال التام عن بلدي، ولغتي، وكل من أحببت. لقد نصحني أصدقائي الفرنسيون بالعودة، وقد فعلت ذلك.  
  • الرواية الحزينة التي كتبتها لاحقًا، "الظل"، تشرح هذا التفريط - الاختيار بين المنفى والحرية ـ هل كنت خائفاً من المنفى؟
 كاداريه: كلا، دائماً ما يكون الكاتب والى حدٍ ما في المنفى، أينما كان، لأنه بطريقة ما في الخارج، منفصل عن الآخرين؛ هناك دائماً مسافة وبُعدْ.  
  • لماذا غادرت البانيا اذن؟
كاداريه: غادرت البلاد في عام 1990، عندما كانت ألبانيا تتأرجح بين الديمقراطية والدكتاتورية. اعتقدت أن رحيلي سيساعد قضية الديمقراطية. قلت إن البلاد إذا اختارت الدكتاتورية فلن أعود، وهذا التهديد حفز النضال من أجل الديمقراطية. لقد أتيت إلى فرنسا لنشر كتاب "قصر الأحلام"، وأدليت ببيان علني أوردته وسائل الإعلام، وقد لعب ذلك دوراً حاسماً لصالح الديمقراطية.
  • أراد الشعب انتخابك رئيساً، كما فعل (هافيل) في تشيكوسلوفاكيا، لكنك رفضت. لماذا؟
 كاداريه: ولن أتردد ثانية في الرفض. كانت حالتي مختلفة عن حالة (هافيل)؛ أردت أن أبقى كاتبًا وحرًا.
  • إنها معضلة كبيرة: هل يجب على المرء أن يقاوم، وأن يصبح معارضاً، كما فعل بعض الكتاب في تشيكوسلوفاكيا؟ أو مغادرة البلاد، كما فعل الكُتاّب الألمان عندما وصل هتلر إلى السلطة، حيث غادروا بأعداد كبيرة.
 كاداريه: لا ينبغي للمرء أن يكون ساذجا! كانت الظروف مختلفة في كل بلد. لا يمكن مقارنة ألبانيا مع تشيكوسلوفاكيا. لم يكن لدينا دوبتشيك، أو ما سُميَ بالربيع التشيكي، أو كل ما أعقب ذلك. عندما كان (هافيل) في السجن، كانت لديه آلته الكاتبة، وكان بإمكانه الوصول إلى وسائل الإعلام العالمية، وكان الجميع يتحدثون عنه. أولئك الذين يقارنون وضعنا بتشيكوسلوفاكيا ليس لديهم أدنى فكرة عن الوضع الذي كان عندنا..
  • ألم يكن من المفترض أن تقدم مخطوطتك إلى اتحاد الكُتّاب أو جهات ثقافية أخرى لفحصها، كما كان الحال في دول أخرى؟
 كاداريه: لا. في ألبانيا لم تكن هناك رقابة مسبّقة على النشر. وبما أن هناك الكثير من الحذر، فإن الرقابة الذاتية كانت كافية. كانت هذه إحدى الخصوصيات، لذلك كان الناشرون هم من يقررون نشر كتاب أم لا. عندما سَلّمتُ مخطوطة "قصر الأحلام "، كنتُ أعرف بأنه كتاب خطير. قرأها الناشر وقال إنه لا يستطيع نشرها. لذلك أخبرته بأنني أتحمّل مسؤولية ذلك: إذا بدأوا في مضايقتك، أخبرهم أنك أعْجِبتَ بشهرتي، وأنني أرغمتك على ذلك. وفي مثل هذه الظروف، كانوا دائمًا يسألون المؤلف، وليس الناشر. وهذا في الواقع ما حدث. لقد قال للسلطات إنه نظرًا لمكانتي، فأنه لم يجرؤ على رفض مخطوطتي.
  • هل يمكن أن توضح لنا ما المقصود بالأدب الحقيقي؟
 كاداريه: ببساطة، هو الأدب الذي تتعرف عليه على الفور، غريزيًا. في كل مرة كتبت فيها كتاباً، كان لدي انطباع بأن لديّ سلاح وهدف، وفي الوقت نفسه أعطي الشجاعة للشعب.
  • في ضوء ما حدث في البلقان، أود أن أسألك عن التعصّب الديني. نصف الألبان مسلمون، بما في ذلك عائلتك. هل تلقيتَ تعليماً دينياً؟ هل هناك خطر من الأصولية الإسلامية في ألبانيا بعد أن أصبحت الممارسة الدينية حرّة؟
كاداريه: لا أعتقد ذلك. كانت عائلتي مسلمة بالاسم، لكنهم لم يمارسوا شعائرهم. ولم يكن أحد من حولي متديناً. علاوة على ذلك، فإن الطائفة "البكتاشية" الإسلامية الذي تُمارس في ألبانيا معتدلة للغاية، بل وأكثر من ذلك في البوسنة. لذلك لا أعتقد أننا بحاجة للقلق بشأن ذلك. 
  • بالعودة إلى الجانب المهني، كيف تقسّمْ وقتك بين تيرانا وباريس؟ ويومك أينما كنت؟ 
كاداريه: أنا في باريس أكثر من تيرانا لأنني أستطيع العمل بشكل أفضل هنا. هناك الكثير من السياسة في تيرانا، والكثير من المطالب. يُطلبْ مني مثلاً أن أكتب مقدمة هنا، ومقالة هناك. . . ليس لدي إجابة على كل شيء. أما يومي: فأكتب ساعتين صباحاً وأتوقف. لا أستطيع أن أكتب أكثر من ذلك، فعقلي يتعب. أكتب في مقهى قريب، بعيدًا عن الإلهاءات. أقضي بقية وقتي في القراءة، ورؤية الأصدقاء، وكل ما تبقى من حياتي.
  • هل ان الكتابة الأدبية سهلة بالنسبة إليك أم صعبة؟ هل تشعر بالسعادة عند الكتابة، أم بالقلق؟
 كاداريه: الكتابة ليست مهنة سعيدة أو تعيسة، بل هي شيء ما بين الاثنين. إنها حياة ثانية تقريباً. أنا أكتب بسهولة، لكني أخشى دائمًا ألا يكون الأمر جيدًا. أنت بحاجة إلى روح الدعابة المستقرة. كل من السعادة والتعاسة أمران سيئان للأدب. عندما تكون سعيداً تميل إلى أن تصبح خفيفاً وتافهاً، وإذا كنت غير سعيد فإن رؤيتك ستكون مضطربة. عليك أن تعيش أولاً، وتختبر الحياة، ثم تكتب عنها لاحقًا.
  • هل تكتب على الآلة الكاتبة أم باليد؟
 كاداريه: أكتبُ بخط اليد، وزوجتي تقوم بطبعه.
  • هل تقوم بإعادة الكتابة كثيرًا؟
 كاداريه: ليس كثيرًا، مجرد تعديلات صغيرة هنا وهناك، ولكن لا توجد تغييرات جذرية.
  • ما الذي يأتي أولاً - الحبكة، الشخصيات، الأفكار؟ 
كاداريه: هذا يعتمد على عدة اشياء، وهو مختلف من كِتاب الى آخر. العملية غامضة ومبهمة. إنها ليست الشخصيات، بل مزيج من كل شيء. مثلاً، في رواية "ركن العار"، هناك صفحة واحدة تم فيها تقديم فكرة التحكم في الأحلام لأول مرة. لاحقًا اعتقدت أنه من المؤسف استخدامه بشكل مقتضب أو سطحي. لذلك كتبت قصة قصيرة حول هذا الموضوع، دون أي أمل في النشر. ولكن تم نشر فصلين في مجموعة قصص قصيرة. بعدها تشجّعت ووسّعت نطاقه ليصبح رواية. إذن كما ترون، فإن نشأة الكتاب غامضة.  
  • أولئك الذين قرأوا أعمالك باللغة الألبانية الأصلية لاحظوا جمال نثرك. هل الأسلوب هو الشغل الشاغل بالنسبة لك؟  
كاداريه: فيما يتعلق باللغة، أنا دقيق، بل صعب أيضاً. على سبيل المثال، أنا أكتب الشعر دائمًا لأن الشعر يجبرك على العمل على اللغة. هناك نوعان من الثراء اللغوي: الأول يشبه ثراء الأحجار الكريمة – الاستعارات والتشبيهات والاكتشافات الصغيرة – والثاني في الكل. إن السعادة العظيمة هي مزيج مثالي من الاثنين، عندما يكون النص مكتوبًا بشكل جميل ويكون المحتوى جوهريًا أيضًا. لكن لا يوجد أي جهدٍ أسلوبي واعي من جهتي.  
  • ماهي الأشياء التي تمنعكَ من العمل؟ مرةً قال همنغواي إن الهاتفَ كان القاتل الأكبر للعمل.
 كاداريه: في تيرانا، نستخدم الهاتف للأغراض المهمة والأكثر براءةٍ أيضاً. لكن كما قلت، أنا أكتب لمدة ساعتين فقط في اليوم، وليس صعباً أن أكون منعزلاً طوال تلك الفترة.
  • حظيتْ روايتكَ الأخيرة التي تُرجمتْ الى الفرنسيةِ باستقبالٍ جيدٍ جداً في فرنسا، هل بدأتَ بكتابةِ روايةٍ جديدة؟
 
 كاداريه: كلا، لستُ في عجلةٍ من أمري.
*نشرت المقابلة في العدد 147 صيف 1998 للاطلاع على المقابلة كاملة: