إنّ الإنتاج الدائم لأشكال الفقر المتغيرة باستمرار، يعد جزءاً لا مفر منه من التدمير الخلاق الذي يميز الرأسمالية. ان شكل الفقر يتغير، ذلك ان الرأسمالية متغيرة وديناميكية باستمرار، الا ان الفقر يبقى. إن إنتاج الفقر ليس حتميا في الرأسمالية فحسب، بل هو أيضا جزء ضروري منها. ولقد كانت هذه هي حال بريطانيا، اول قوة صناعية رأسمالية في العالم، خلال الثمانمائة عام الماضية.
يرتبط الفقر إلى حد كبير بعلاقة الناس بوسائل الإنتاج ــ فقد طُردوا من الأرض، ولم يعد لديهم عمل، أو لديهم عمل أجوره زهيدة، او هو بدوام جزئي، او غير منتظم. وكانت هذه هي الحال على مدى قرون من الزمان؛ وهي ذات الحال اليوم. كما يصف مؤلفان بريطانيان وجود الفقر المستمر في حياة الطبقة العاملة "كان الفقر هو العامل الفريد الأكثر توحيداً في تاريخ الطبقة العاملة: التهديد بالفقر، والخوف من الفقر، ويقين الفقر"(1). كان العمل غير المستقر ــ في الواقع، عدم استقرار الحياة نفسها ــ من الأمور الثابتة. وكما قال بالمر (Bryan Palmer) "لم يكن العمل الا الأساس غير المستقر لحياة تعيش على حافة السكين من الحرمان"(2).
يقدر ان 40 بالمئة من سكان بريطانيا كانوا قد اجبروا، مع نهاية القرن الـ 17، على ترك أراضيهم في القرون السابقة. وذلك بسبب حركة الاستيلاء على الأراضي (enclosure movement)، التي كانت مقدمة ضرورية لنشوء الرأسمالية. وكنتيجة لذلك، أصبح اغلبهم فقراء - بقايا الموت الطويل للمجتمع الإقطاعي. لقد كان اولئك "الرجال الذين لا سيد لهم" يجوبون الطرقات، حيث كانوا "موجودين بأعداد مثيرة للقلق ... كثيرا ما كانوا منبوذين غير قابلين للتشغيل في مجتمع يمر بتحول اقتصادي"، وهو ما يكافئ "العاطلين عن العمل في كساد ثلاثينيات القرن العشرين، او الملايين التي بلا عمل في المدن الداخلية هذه الأيام"(3).
وفي سبيل دفع المشردين -القادرين بدنيا الا انهم لا يعملون وبالتالي هم فقراء - الى العمل، شُرعت، خلال القرن الـ 16، الكثير من قوانين العمل الصارمة. على سبيل المثال، كان من الممكن "ربط المتشرد إلى نهاية عربة عارياً وضربه بالسياط... حتى ينزف جسده"، وكان من الممكن قطع أذنيه(4). وكان من الممكن وسم المتشردين بالحديد المحمي تحمل علامة "V"*. على سبيل المثال أيضا، كان المتشردون في مقاطعة ميدلسكس (Middlesex)، عام 1590، "يُجلدون ويُوسمون... بمعدل متشرد واحد في اليوم"(5). ان الغاية من مثل هذه العقوبات هو اجبار الفقراء على الانضمام الى قوة العمل المأجورة.
وغالبا ما كان الفقراء يتمردون. وقد تزايدت اعمال الشغب، التي تسببت فيها حركة الاستيلاء على الأراضي، بشكل كبير في اواخر القرن الـ 16. وعندما طالب دوق نورفولك (Norfolk) الحديث مع قائد حشد متمرد، عكست إجابتهم غضب ذلك العصر: "بما أنك تسأل من هو قائدنا، إن اسمه الفقر، لأنه، وابن عمه البؤس، هما من أوصلنا إلى هذه الافعال"(6). ومع حلول نهاية القرن، كان التشرد منتشراً على نطاق واسع إلى الحد الذي أدى إلى صدور قانون الفقراء في عهد الملكة إليزابيث الأولى عام 1601.
في الواقع، كان قانون الفقراء، لعام 1601، نظاما متهرأ للإعانة الاجتماعية. لقد كان يوفر للفقراء "المستحقين"، على سبيل المثال: المرضى، كبار السن، ذوي الإعاقة، ما يكفي فقط ليحول دون موتهم في الطرقات، او دون تمردهم. لقد كان يستبعد أولئك الذين اعتبروا قادرين على العمل (الفقراء "غير المستحقين")، الذين كان من الممكن اجبارهم على الانضمام إلى قوة العمل المدفوعة الأجر أو معاقبتهم لعدم الامتثال. ان فكرة توجيه الدعم إلى الفقراء "المستحقين"، وان على هذا الدعم ان يتكون من الحد الأدنى، ستبقى على مدى القرون الأربعة التالية، وحتى يومنا هذا. كما استمر الاعتقاد بمعاقبة الفقراء "غير المستحقين".
وخلال القرنين اللذين أعقبا قانون الفقراء الالزبيثي، شق العديد ممن كانوا فقراء طريقهم الى المدن، حيث انزلقوا هناك الى المزيد من الفقر وانعدام الاستقرار. وإذا عاينّا قضية الأطفال، لوجدنا ان لندن "كانت مكتظة بالأطفال المهجرين في القرن الـ 18. لقد كان أكثر من ألف طفل يُتركون، كل عام، في اكوام القمامة، او الشوارع او الازقة واروقة المدنية العامة الأخرى"(7). على سبيل المثال، كان قد أُوصي، في عام 1770، بـ "ارسال الأطفال الفقراء في سن الرابعة إلى دور العمل (workhouses)... فهناك فائدة كبيرة في تشغيلهم بشكل أو بآخر بشكل مستمر لمدة 12 ساعة على الأقل في اليوم"، وهكذا فإنهم قد "يعتادون على العمل الثابت"(8).
وقد ماتت اعداد هائلة منهم في دور العمل هذه. حيث اشارت لجنة 1767 لمجلس العموم، الى انه في الفترة ما بين عام 1741 ولغاية عام 1748، فإن من بين 1429 طفلا ولدوا في دار عمل لندن، او جلبوا اليه بعمر اقل من سنة، نجا 19 طفلا فقط، وهو ما يزيد قليلا على الواحد بالمئة(9). واستنادا الى بيانات بين عامي 1746 - 1750، استنتج المؤرخان تيم هتشكوك (Tim Hitchcock) و روبرت شوميكر(Robert Shoemaker) ان "دار عمل القديسة مارغريت كانت ببساطة مكانا للموت"(10). اما في دار عمل القديس لوك في لندن، فإن كل الـ 53 طفلا تحت عمر الخمس سنوات توفوا خلال الفترة من 1757 ولغاية 1763، أي مئة بالمئة(11). اما في السنوات التي سبقت الثورة الصناعية، فإن نسبة 50 بالمئة لوفيات الأطفال في دور العمل كانت شائعة.
لقد تم تشديد الظروف [في دور العمل] عن عمد، وذلك لإجبار الناس على العمل في المناجم والمعامل في ذلك الوقت. وكما أوضح أحد أعضاء لجنة قانون الفقراء: "أتمنى أن أرى دار الفقراء يُنظر إليها من قبل طبقتنا العاملة برهبة... فبدون هذا، أين الحافز الضروري للصناعة؟"(12).
وعلى نحو مماثل، كان قانون الفقراء لعام 1834 مصمما لإجبار الناس على العمل. بينما كان العمل في "المعامل الشيطانية المظلمة" محفوفا بالمخاطر؛ وساعاته كانت طويلة وشاقة؛ وكان الاجر زهيدا. لم يكن أحد يريد مثل هذه الاعمال. وكان الاكراه ضروريا.
في مناجم الفحم، كان من الممكن ان يتواجد أطفال دون سن العاشرة، يزحفون على اطرافهم الأربعة، في اقبية المناجم منخفضة السقف، وارجلهم مقيدة بالسلاسل، والحبال ملفوفة حول خصورهم، وهم يسحبون العربات المحملة بالفحم مثل الخيول. لقد كان الآباء يأخذون أبناءهم الى مناجم الفحم منذ عمر الثامنة او التاسعة، في اغلب الأحيان لأن عوائلهم بحاجة الى الكسب الإضافي. وكانت النساء يأخذن اطفالهن، وحتى وهم بعمر السادسة، الى المناجم. وفي بعض الأحيان يستخدمن المخدرات، الافيون عل سبيل المثال، لإبقاء الصغار هادئين. وكانت النتيجة ان "عددا كبيرا من الأطفال كانوا يموتون بسبب جرعة زائدة، او، وكما يحدث بالعادة، يهلكون بصورة خبيثة ومؤلمة. اما أولئك الذين ينجون بحياتهم، فيصبحون أطفالا مرضى وشاحبين.. وذوي بنية جسمية محطمة"(13).
الكثير من الأطفال، الذين كانوا "يغزون" شوارع لندن، تم تجميعهم وتحميلهم في عربات، وسحبوا بالقوة الى معامل القطن في لانكشاير (Lancashire). وكما صور أحد المعاصرين "كانت عادة شائعة جدا في الدوائر الإدارية الكبرى في لندن ان يتم ربط الأطفال، بأعداد كبيرة، لملاك مصانع القطن في لانكشاير ويوركشاير (Yorkshire)، على مسافة 200 ميل. والأطفال، الذين كانوا يرسلون كحمولة عربة في كل مرة، كانوا بالنسبة لآبائهم يضيعون الى الابد، كما لو انهم شحنوا بالسفن الى الهند الغربية"(14).
في المصانع، كان الأطفال غالبا ما يعملون 12 ساعة او أكثر في درجات حرارة مرتفعة، وكانوا يضربون لحثهم على العمل، وكانوا يتعرضون للإصابة بالمكائن، بل وحتى يموتون من سوء التغذية. في عام 1833، قال جوزيف هابرغرام، للجنة برلمانية "عندما كنت في السابعة من عمري اشتغلت فعليا لمدة 14 ساعة ونصف ... وكان التقييد الوسيلة التي من خلالها يبقى الأطفال في العمل"(15). المُصلح وابن صاحب مصنع ديفيد اوين كتب "في بعض المصانع الكبرى، وبسبب الافراط في العمل او الإساءة الوحشية، كان من خمس الى ربع الأطفال اما معاقين او بشكل ما مشوهين، او مصابين بصورة دائمة"(16).
هذه هي الرأسمالية. ان أرباحها المهولة انتُجت على كاهل العمال والأطفال. لقد جعلت من بريطانيا القوة الصناعية والامبريالية الأولى في العالم، وهي كذلك انتجت صورة مروعة من الفقر باعتباره جزءا ضروريا من العملية. وهذا ما كان ماركس يعنيه عندما قال "ان وجود مليون فقير في دور العمل البريطانية لا ينفصل عن الرخاء البريطاني، كما انه لا ينفصل عن وجود من 18 الى 20 مليون [باوند] من الذهب في بنك إنكلترا"(17). ان انتاج الفقر ملازم ولا يمكن فصله عن خلق الثروة.
وعلى نحو مماثل، دعمت ارباح العبودية الثورة الصناعية. ففي الفترة من 1630 ولغاية عام 1807، باع تجار العبيد البريطانيين واشتروا ما يقارب من 2.5 مليون افريقي. لقد كانت تجارة العبيد مربحة بصورة هائلة. وكانت هذه الأرباح نتيجة للاستراتيجية الإدارية المتبعة في مزارع القطن في الجنوب الأمريكي العميق، والتي وصفها ادوارد بابتست (Edward Baptist) بأنها "تعذيب"، وأنها إدارة بالسوط. "السوط الذي ينتج القطن"، والعبيد الذين ينتجون القطن يصنعون الثورة الصناعية(18).
ان أهمية العبودية والقطن بالنسبة للثورة الصناعية تعكسها حقيقة ليفربول. لقد سيطر تجار ليفربول على ما يصل الى 85% من تجارة الرقيق البريطانية. وبحلول نهايات ثلاثينيات القرن التاسع عشر، كان ما يقارب من 90% من واردات القطن البريطانية تدخل عبر ليفربول. وكان هيكل السلطة في المدينة مأهولا بالكامل من قبل أولئك المنخرطين بصورة مباشرة بتجارة الرقيق القائمة على القطن. ففي عام 1787، كان 37 من أعضاء مجلس المدينة، البالغ عددهم 41 عضوا "ملاك لسفن تجارة الرقيق او من المستثمرين او المريدين الاساسيين لهذه التجارة. وكان كل رؤساء البلدية الـ20 للفترة من 1787 وحتى 1807 ممولين او ملاك سفن تجارة الرقيق"(19). ان الثروة التي تدفقت من تجارة الرقيق ادت إلى إنشاء البنوك الكبرى في ليفربول، والتي حققت بدورها أرباحاً هائلة، من خلال تعزيز الائتمان اللازم لبناء مزارع القطن في الجنوب [الأمريكي] العميق. وعادة ما كان العبيد هم الضمانات. لقد شمل من دعموا ما سمي بـ "مصلحة الهند الغربية" في تجارة العبيد "المئات من أعضاء البرلمان، والنبلاء، والموظفين المدنيين، ورجال الاعمال، والممولين، وملاك الأراضي، ورجال الدين، والمثقفين، والصحفيين، والناشرين، والجنود، والبحارة، والقضاة وكلهم كانوا في اقصى التطرف في المحافظة وحماية العبودية الاستعمارية"(20). الرأسمالية الصناعية لم تكن لتولد في بريطانيا لولا دماء القطن والعبيد.
كان القطن، الذي ينتجه المستعبدون الافارقة في الولايات المتحدة الامريكية، يعالج لاحقا في معامل لانكشاير عن طريق عبيد الاجر. وهؤلاء كانوا في الغالب أطفالا، ولاحقا بحلول ثلاثينات القرن التاسع عشر تزايدت اعداد النساء. اما المنتج النهائي، الملابس القطنية، فكان يصدّر. وكان يصدّر في المقام الأول الى المستعمرات البريطانية مثل الهند، ما أدى الى تخريب انتاج الملابس هناك. فلقرون، كانت الهند المنتج الأكبر في العالم لأجود أنواع القطن. ان ما وصفه سفين بيكيرت (Sven Beckert) بـ "رأسمالية الحرب"، اي استخدام القوة والعنف لفتح الأسواق وتأمين العمالة والموارد ــ دمر صناعة القطن الهندية تقريبًا. "لقد اخليت الهند من الصناعة بصورة منهجية وأصبحت بدورها سوقا لقطن لانكشاير: في عام 1820، تسلمت شبه القارة الهندية 11 مليون ياردة فقط؛ ولكن بحلول عام 1840 تسلمت 145 مليون ياردة"(21). كان العبيد يقطفون القطن في ظل ظروف وحشية في الجنوب العميق؛ وكانت النساء والأطفال يعالجونه في معامل لانكشاير في ظل ظروف وحشية؛ وقد أدى بيع المنتجات النهائية الى تدمير صناعة الملابس في الهند، والتي كانت يوما ما صناعة مزدهرة. ان الفقر، يكاد لا يصف حالة أولئك المنخرطين في هذه "السوق" العالمية.
ان الفقر، ذلك الفقر الوحشي وغير الإنساني، كان حصيلة كل نقطة فيما كان يمثل عملية رأسمالية عالمية. لقد كانت العبودية، والاستعمار، والعمل القسري عناصر ضرورية لانبثاق الرأسمالية. ان الرأسمالية تولد، في ذات الوقت كجزء من ذات العملية، أرباحا هائلة ومرارة وفقرا مروعين. ان الرأسمالية، كما كتب ماركس، جاءت الى العالم "تقطر دما وقذارة، من كل مساماتها، من رأسها الى أخمص القدمين"(22).
ان الفقر لم يكن فقط شيئا من ماضي الرأسمالية. فهو ما زال موجودا إذا ما قفزنا الى الامام لمدة قرن ونصف القرن، متخطين الفقر المدقع للكساد العظيم في ثلاثينيات القرن العشرين -عندما قاسى الملايين من العمال البريطانيين من ويلات البطالة الجماعية والفقر الجماعي، ومن الإهانات القاسية لاجتياز اختباري الدخل الاسري و"البحث الصادق عن العمل" المكروهين بشدة- وصولا الى عهد تاتشر في ثمانينات القرن العشرين وما بعدها. كان الاقتصاد الرأسمالي البريطاني يعاني من مشاكل في نهاية سبعينات القرن العشرين، واستجابة لهذه الأوضاع انتُخِب المحافظون بقيادة مارغريت تاتشر في عام 1979. وقد استلهم هؤلاء في سياساتهم لحل المشاكل الاقتصادية أفكار فريدرك هايك وميلتون فريدمان.
ان القيم التي كانت تاتشر تحملها هي قيم العصر الفكتوري أساسا. حيث كانت تؤمن ان المشاكل الاقتصادية للمملكة المتحدة كانت ناجمة عن دولة الرفاه. كانت تعارض كل أشكال الرفاهية الاجتماعية، وتؤمن أن الفقراء يجب أن يُجبروا على العمل. وقبل أن تصبح رئيسة للوزراء، كانت واحدة من ستة أعضاء محافظين في البرلمان صوتوا لصالح إعادة جلد الفقراء، كما حدث قبل أربعة قرون لإجبار المتشردين على العمل. وفي فترة ولايتها الثالثة، قدمت نظاما متكاملا للرعاية الاجتماعية المشروطة (workfare). كان من شأنه أن يجبر الناس على الدخول إلى المستويات الدنيا من سوق العمل، تمامًا كما تم تصميم دور العمل وقانون الفقراء عام 1834 قبل قرن ونصف القرن من الزمان.
لقد ساهمت حكومات تاتشر المتعاقبة في خلق الفقر عن عمد. كانت استراتيجيات هذه الحكومات تتضمن تخفيضات عميقة في الدعم المقدم للفقراء، واضعافا لقوة النقابات عبر "تشريعات شرسة مضادة للنقابات، لا نظير لها في أوربا"، وتخفيضات كبيرة في الضرائب المفروضة على أصحاب الدخول المرتفعة، وإطلاق العنان لقوى السوق، يضاف الى كل هذا محاولة تحويل الثقافة البريطانية الى ان تكون موجهة نحو دعم وتأييد المغامرات الاقتصادية، وان تكون فردية اكثر فاكثر(23). لقد سُحِقَ قطاع التصنيع في بريطانيا وارتفعت معدلات البطالة إلى أعلى المستويات، مستويات اعلى وأطول أمداً مما كانت عليه في ثلاثينيات القرن العشرين. وبحلول عام 1996، كان 37 بالمئة من الرجال في سن العمل في منطقة ميرسيسايد بمدينة ليفربول عاطلين عن العمل، وكانت أسرة من بين خمس أسر في بريطانيا تفتقر إلى شخص بالغ يعمل، وتضاعف عدد البالغين الذين يعيشون في أسرٍ بلا عمل بين عامي 1979 و1993-1994(24). وبالنسبة لنورمان لامونت (Norman Lamont)، وزير الخزانة، كان هذا "ثمناً يستحق الدفع" لاستعادة صحة الرأسمالية في بريطانيا(25). لقد تم خلق الفقر عمداً لاستعادة الظروف المواتية لتراكم رأس المال، من أجل الربح.
كانت النتيجة انفجاراً للفقر. ففي عام 1999، وبعد عقدين من حكم المحافظين بقيادة تاتشر أو بإلهام منها، "كان عدد الناس الذين يعيشون في الفقر أو على هامشه أكبر من أي وقت مضى في تاريخ بريطانيا. ووفقاً لأدق مسح للفقر والاقصاء الاجتماعي تم إجراؤه على الإطلاق، فإن نحو 14 مليون شخص في بريطانيا، أو 25% من السكان، كانوا موضوعيا يعيشون في فقر بحلول نهاية عام 1999"(26).
ما وراء هذه الأرقام الباردة، كانت هناك "أدلة مقلقة على الفقر المدقع على نطاق لم تشهده بريطانيا منذ ثلاثينيات القرن العشرين... الأمراض المرتبطة بالفقر وسوء التغذية، مثل السل وكساح الاطفال، والتي كان معظم خبراء الصحة يأملون في اقصائها إلى الأبد، عادت من جديد"(27). بل ان عضو البرلمان المحافظ إيان جيلنور (Ian Gilmour) قال إن "المعاملة التاتشرية للفقراء كانت ذنباً لا يغتفر"(28).
في عام 1997 تولى حزب العمال الجديد السلطة. وكان الفقر وعدم المساواة قد بلغا مستويات غير مسبوقة في العصر الحديث. ومع ذلك لم يتغير الكثير في نهجهم. ووصف داني دورلينج (Danny Dorling) حزب العمال الجديد بأنه "استمرار للتاتشرية". ووصف كولين كراوتش (Colin Crouch) حزب العمال الجديد بأنه "أبناء تاتشر حسنوا السلوك، وذريتها المباشرة". وكتب توماس بيكيتي (Thomas Piketty) أن حزب العمال الجديد "اقر ونفذ الإصلاحات المالية لعهد تاتشر"(29). وعندما سئلت تاتشر عن أعظم إنجازاتها، أجابت: "توني بلير وحزب العمال الجديد. لقد أجبرنا خصومنا على تغيير آرائهم"(30).
ربما لم تتغير آراؤهم كثيرا. بلير لم يخن جذوره، "لأنه لم تكن لديه جذور كي يخونها"، انه "لم يكن يحمل في جسده ذرة اشتراكية"(31). في خطاب ألقاه في غرفة التجارة البريطانية في عام 1995، قال بلير: "كان حزب العمال القديم يؤمن أن دور الحكومة هو التدخل في السوق. أما حزب العمال الجديد فيؤمن أن دور الحكومة هو جعل السوق أكثر ديناميكية، وذلك لتزويد الناس والشركات بوسائل النجاح"(32). تبعا لذلك، من المنطقي أن يتخلى حزب العمال الجديد عن التزامه الراسخ بتكافؤ النتائج (Equality of outcomes)، وهي التزامات، بحسب المعتقدات التاتشرية، من شأنها أن تشكل قيداً على الاقتصاد.
كانت العديد من الشخصيات الرئيسية في حزب العمال الجديد، بما في ذلك بلير، يزدرون حزب العمال القديم. فقد قال روي هاترسلي (Roy Hattersley)، الذي يُنظَر إليه عادة باعتباره جزءاً من اليمين القديم في حزب العمال: إن حزب العمال الجديد تخلى عن "المحرومين". وأضاف أن الاشتراكية "تتطلب أن يكون المبدأ الأساسي هو إعادة توزيع السلطة والثروة"(33). وكان بلير وحزب العمال الجديد يعارضان بشدة إعادة توزيع السلطة والثروة.
لقد حقق حزب العمال الجديد بعض المكاسب في الحد من فقر الأطفال والمتقاعدين، أو ما يسمى بالفقراء المستحقين. ولكن هذه المكاسب لم تدم طويلا، وارتفعت مستويات اللامساواة، التي كانت مرتفعة اساسا بشكل كبير في عهد تاتشر، إلى مستويات جديدة وفاحشة. وكما وصف بيتر ماندلسون (Peter Mandelson)، أحد مؤسسي حزب العمال الجديد، "نحن مرتاحون للغاية بشأن تحول الناس إلى أثرياء فاحشين، طالما أنهم يدفعون ضرائبهم"(34). ومع ذلك، خفض حزب العمال الجديد الضرائب المفروضة على أصحاب الدخول المرتفعة، ودفع بالضرائب المفروضة على الشركات إلى مستويات أدنى من أي وقت مضى في تاريخ بريطانيا، بل وأدنى من مستوياتها في البلدان الصناعية الكبرى. ووصفت صحيفة صنداي تايمز سنوات حزب العمال الجديد بأنها "العصر الذهبي لفاحشي الثراء"(35).
إنّ النهج الذي انتهجته حكومة حزب العمال الجديد يتلخص في دعم الناس في الخروج من براثن الفقر، من خلال برامج "مكافحة الفقر" المتنوعة. ولكن هاترسلي كان محقاً بالتأكيد في أن "حكومة حزب العمال لا ينبغي لها أن تتحدث عن سبل الهروب من الفقر والحرمان". بل ينبغي أن تكون المهمة "تغيير المجتمع على النحو الذي لا يوجد فيه فقر وحرمان للفرار من وجههما"(36). لم يكن لدى حزب العمال الجديد أي التزام من هذا القبيل.
لقد تدهورت، في ظل حكومات حزب العمال الجديد، أوضاع الإسكان بالنسبة للفقراء. وهو الجانب الكئيب والمروع من الفقر في بريطانيا على مدى قرون من الزمان. وكان سجلها في مجال الإسكان الاجتماعي أسوأ من سجل تاتشر. فقد أصبحت المجمعات السكنية التي كانت في يوم من الأيام المساكن التي يفخر بها للطبقة العاملة البريطانية، يُـنظَر إليها على نحو متزايد باعتبارها مساكن للفقراء غير المستحقين، وسُـمِح لها بالتدهور إلى حد أكبر مما حدث لها في عهد تاتشر. وكان حزب العمال الجديد "معارضاً إيديولوجياً لبناء المساكن البلدية"، وخفض إلى النصف، "إلى رقم منخفض للغاية بلغ 0.3%"، نسبة الناتج المحلي الإجمالي التي تنفق على الإسكان البلدي(37).
اما الشباب في المناطق السكنية الهامشية، "العقارات المتدهورة"، فتم تنزيل وظائفهم إلى وظائف منخفضة الأجر تقبع في قاع سوق العمل، بلا مزايا، ولا مستقبل لها. وهذه هي الوظائف التي يخلقها الرأسماليون الآن. وكانت استجابة حزب العمال الجديد هي الاتكال على استراتيجية الرعاية الاجتماعية المشروطة (workfare) لتاتشر، إلى الحد الذي أصبحت فيه بريطانيا "دولة الرعاية الاجتماعية المشروطة الرائدة في العالم". والمنطق هنا هو أن "هذه الرعاية الاجتماعية لا تهدف إلى خلق فرص عمل للأشخاص الذين لا يملكونها؛ بل تهدف إلى خلق عمال لوظائف لا يريدها أحد"(38)، وهذا هو بالضبط ما تم تصميم دور العمل وقانون الفقراء الجديد لعام 1834 لتحقيقه. وفي مواجهة هذه الطرق المسدودة، ثار الشباب في عام 2001. وكما كتبت صحيفة الغارديان في مايو/ أيار من ذلك العام، فإن أعمال الشغب "كانت نتيجة لتوترات تختمر لسنوات. وهي توترات مصادرها لا شيء غامضا حولها. التوتر الأول قائم على الفقر. وكما هي الحال في كل أعمال الشغب البريطانية، اندلع الصراع في مكان يعاني من صعوبات اقتصادية يائسة". ومع ذلك تم إلقاء اللوم على مثيري الشغب، "والأمراض المجتمعية التي أدت إلى ظهورهم"(39).
في عام 2011، بعد عام من مغادرة حزب العمال الجديد السلطة، اندلعت الاضطرابات المدنية مرة أخرى، ما أدى إلى موجة من إلقاء اللوم البغيض على الفقراء. نشرت صحيفة التلغراف مقالاً بعنوان "أعمال شغب لندن: الطبقة الدنيا تهاجم". وقد استخدمت التغطية الإعلامية لغة مثل "الحثالة، والبلطجية، والفئران البرية... وكان مصطلح الحثالة هو المصطلح المهين المفضل: طبقة الحثالة، النفايات القذرة". من جهته وصف وزير العدل مثيري الشغب بأنهم "طبقتنا الدنيا الوحشية". بينما عزا رئيس الوزراء ديفيد كاميرون أعمال الشغب إلى "الانهيار الأخلاقي"، وأصر على أن "أعمال الشغب هذه لم تكن بسبب الفقر" بل "بسبب السلوك". اما بوريس جونسون (لاحقا اصبح رئيسا للوزراء – المترجم)، عمدة لندن حينها، فقد اعتبر أنه "مثير للاشمئزاز" تقديم تفسيرات تتعلق بالفقر(40).
إن التفسير الأكثر اطلاعا يمكن أن نجده في كلمات شاب يبلغ من العمر 22 عاماً شارك في أعمال الشغب التي اندلعت في عام 2011: "كل ما أستطيع أن أقوله لك هو أنني، انا والمجموعة التي كنت فيها، لا أحد منا لديه عمل، أليس كذلك؟ لقد كنت عاطلاً عن العمل منذ عامين تقريباً... يا رجل، ما كنت امرّ فيه يشبه الاكتئاب، الذي أغرق فيه... شعرت أنني بحاجة إلى أن أكون هناك فقط لأقول: انظر، هذا ما سيحدث إذا لم تُعرض علينا وظائف هناك"(41).
الرأسمالية تنتج الفقر، ولكن اللوم يقع على عاتق الفقراءً. بل أكثر من مجرد اللوم، انهم يخافونهم، ويحتقرونهم، ويكرهونهم. وخلال السنوات الأولى من حركة الاستيلاء على الأراضي، والتي استمرت قرونا، كان الناس يطلقون على أولئك الذين يمشون على الطرق "وحوشاً خارجة عن القانون" ترتكب "أفعالاً شنيعة وخطايا بغيضة"؛ لقد كانوا "أقذارا وحشرات ضارة في المجتمع"(42). وبعد قرون من ذلك الزمن، في أواخر القرن التاسع عشر، قال تشارلز بوث (Charles Booth)، وهو أحد المدونين المتعاطفين نسبياً مع الفقر في لندن، عن الفقراء "إن حياتهم ذاتها هي حياة متوحشين... فهم يحطون من قدر كل ما يلمسونه"(43). وعن الفقراء الأيرلنديين الذين انتقلوا إلى إنجلترا بأعداد كبيرة، وخاصة في منتصف القرن التاسع عشر، كتب أحد أطباء ليفربول في عام 1845 "يبدو أن الأيرلنديين راضون في وسط الأوساخ والقذارة... ويبدو أنهم يهتمون فقط بما من شأنه دعم الوجود البهيمي"(44). وبعد قرن من ذلك الزمن، في أواخر أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين، تم تحديد الأمهات فيما كان يُطلق عليه آنذاك "الأسر التي تعاني من مشاكل" باعتبارهن السبب وراء الفقر. لقد كنَّ "أمهات طائشات"، يربيّن أطفالاً "بليدين وضعفاء العقل"(45). وفي الستينات، ألقت وسائل الإعلام المعادية اللوم في الفقر على "جيش المحتالين في طوابير الإعانات في بريطانيا"، ما أثار موجة من "رهاب المتطفلين" شملت عناوين مثل "امسكوا بالمتطفلين!"(46).
ويستمر الوضع. ففي عددها الصادر 24 مايو 2023 ذكرت صحيفة الغارديان البريطانية أن الجناح اليميني في حزب المحافظين يلقي باللوم في المشاكل الاقتصادية التي تعاني منها بريطانيا على "البُلداء" و"العاطلين". وبينما الرأسمالية لا تزال تنتج الفقر؛ يظل الفقراء يتحملون اللوم على فقرهم. هذه "دعاية الفقر"(47). انها تعمل في خدمة الرأسمالية.
على مدى الثمانمائة عام الماضية، لم تكن هناك محاولة جادة تقريباً للحد بصورة فعلية من الفقر الذي تنتجه الرأسمالية. وهناك استثناء مهم واحد. فقد كانت حكومات حزب العمال في الفترة 1945-1951 متميزة في تلبية احتياجات الفقراء، على الرغم من أنها لم تستخدم قط، على حد علمي، مصطلح "برامج مكافحة الفقر". كان نهجها يتمثل في برامج شاملة، أي برامج تفيد الطبقة العاملة بأكملها: الخدمة الصحية الوطنية؛ والإسكان الضخم عالي الجودة للطبقة العاملة؛ وقانون التأمين الوطني الذي يدفع إعانات البطالة والمرض لجميع العاملين؛ والحد بشكل كبير من أعداد العاطلين عن العمل.
كان الأساس الإيديولوجي لهذه السياسات هو الالتزام باستهداف النهج المتخلف القائم على التبرعات الخيرية والابتعاد عنه نحو مقاربة مساواتية وشمولية وعامة. وكان من المفترض أن يتمتع جميع المواطنين بالقدرة على الوصول إلى الخدمات بمستوى متساوٍ تقريبًا، وبهذه الوسائل، كان من المفترض أن يتم تحديد حد أدنى للجميع. ويمكننا أن ننظر إلى هذا الإصرار على الشمولية ــ الذي عارضه المحافظون بشدة ــ باعتباره هجوما على امتيازات الطبقات.
كما يمكن أن تؤثر التغييرات على الضرائب. فقد فرضت حكومات حزب العمال ضريبة إضافية على الدخول التي تتجاوز 10 آلاف جنيه إسترليني، وضريبة وفاة بنسبة 75% على التركات التي تزيد قيمتها على 21.500 جنيه إسترليني. وبحلول عام 1951، تجاوز معدل الضريبة الهامشي على الدخول المرتفعة 90%(48).
ولقد واجهت حكومات حزب العمال في الفترة 1945-1951 ضغوطاً مالية هائلة ــ ووصف جون ماينارد كينز الأزمة المالية التي اندلعت في عام 1947 في أعقاب نهاية الإعارة والتأجير (Lend-Lease) بأنها "أزمة مالية"(49). وواجهت هذه الحكومات معارضة هائلة من جانب القطاع الخاص والمؤسسة البريطانية. وصف وزير مساعد من حزب العمال كيف نهض ليتحدث في مجلس العموم وكيف واجه "العيون الباردة العنيدة لذلك الصف من أباطرة المال الذين كانوا يكرهون حكومة حزب العمال بشغف وخوف والذي جعل منهم رجالاً مخلصين في تصميمهم على إخراجه من السلطة"(50).
في مواجهة هذه الضغوط المالية والسياسية الضخمة، أظهر حزب العمال شجاعة هائلة والتزاما صلبا كالصخر في تلبية احتياجات العمال. وكانت النتيجة أن الفقر انخفض. وكما كتب كينيث مورغان (Kenneth Morgan)، "جميع المؤشرات، على سبيل المثال، إحصائيات مسؤولي الصحة، أو موظفي الصحة والاسنان في المدرسة، اشرت تحسن مستوى الصحة واللياقة البدنية القوية خلال الفترة 1945-1951، وهذا يشمل الرضع، الذين استمرت معدلات بقائهم على قيد الحياة بالارتفاع، وصولا الى كبار السن، الذين امتدت بثبات توقعات تقاعدهم الطويل والسعيد"(51). كانت الدراسات الكمية لحدوث الفقر متسقة مع المؤشرات الأخرى، وهي تشير الى ان: الفقر انخفض بشكل كبير(52). نعم، لم يتم القضاء عليه، لكن لم يتم تخفيضه من قبل الى هذا المستوى. وهي حقيقة تم تأكيدها في وقت لاحق، تحليل منقح لـ (B. Seebohm Rowntree’s) و (G. R. Lavers’s) في دراسة لهما عام 1951(53).
ولكن كان هناك الكثير مما ينبغي القيام به. وكان من المفترض أن تكون دولة الرفاهة الناشئة "مجرد الدفعة الأولى من برنامج إصلاح جذري بعيد المدى"(54). ولكن هذا لم يحدث. فالخطوات الضخمة التي اتخذتها حكومات حزب العمال بعد الحرب لم يتم البناء عليها من قبل حكومات الحزب اللاحقة بالطرق الضرورية والممكنة. حيث انتقلت بريطانيا من كونها رائدة في مجال السياسة الاجتماعية في السنوات التي أعقبت الحرب مباشرة، إلى دولة متخلفة في مجال السياسة الاجتماعية. حدث ذلك تدريجيا في البداية، وجزئيا نتيجة لسياسات حزب العمال الإصلاحية، ثم بشكل متعمد ودراماتيكي مع انطلاق الانتخابات عام 1979 لحكومات تاتشر المحافظة، وأخيراً بفضل جهود حزب العمال الجديد. "كانت دولة الرفاهة أعظم إنجازات حزب العمال. لقد تضررت وأضعفت في عهد السيدة تاتشر. ولكن تدميرها بالجملة كان بمثابة المهمة التاريخية لحزب العمال الجديد"(55).
لا يزال الفقر يمثل مشكلة ضخمة في بريطانيا في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين. في عام 2018، اتهم فيليب ألستون (Philip Alston)، وهو مقرر الأمم المتحدة المعني بالفقر المدقع وحقوق الإنسان، بعد تحقيق عن الفقر في بريطانيا، الحكومة بـ "الإفقار المنهجي لجزء كبير من السكان البريطانيين"(56). وفي نوفمبر 2023، صرح خليفته، المقرر الحالي للأمم المتحدة المعني بالفقر المدقع وحقوق الإنسان، أوليفر دي شوتر (Oliver De Schutter)، بأن "الأمور ساءت"(57). ظروف الإسكان بالنسبة للعديد من الناس مروعة. ينمو التشرد بلا هوادة. تكثر العمالة غير المستقرة. بنوك الطعام في كل مكان. الافتقار الى الوقود منتشر على نطاق واسع. يعاني الفقراء من صحة منهكة واعمار قصيرة. إدمان المخدرات متفشي ومدمر، وخاصة بالنسبة للفقراء. وفي هذا الزمان، وبينما يثقل اليأس والإحباط كاهل الفقراء، يعد عقاب الفقراء وسجنهم، عناصر رئيسة في الاستجابة للفقر كما كان في ظل قوانين الفقراء وما قبلها. ستبقى المعاناة الإنسانية الهائلة، اليوم كما كانت دائماً، نتاجاً لهذه الآفة القديمة. ومع ذلك، لا يزال الفقراء هم يتعرضون للوم، بل وللسب والكراهية، لفقرهم. وهو فقر الذي لا ينجم عن إخفاقاتهم الأخلاقية والسلوكية، بل عن المنطق الأساسي للرأسمالية.
إن منطق الرأسمالية يؤدي إلى الفقر، وذلك لأن الفائض الناتج عن عملية تراكم رأس المال يُستثمر في مجالات يعتقد الرأسماليون أنها ستدر عليهم أكبر قدر من الربح في المستقبل. انه لا يستثمر في تلبية حاجات الناس، فهو ان أصبح كذلك فلا يتوقع منه تحقيق الربح. انه، على سبيل المثال، لا يستثمر في توفير السكن اللائق والمعقول التكلفة لأولئك الذين يعيشون في فقر على الرغم من الحاجة الكبيرة، لأن الإسكان اللائق والمعقول التكلفة للفقراء ليس مربحاً. هذا هو الحال، على الرغم من أنه من المعروف أن الإسكان غير اللائق وغير الميسور التكلفة يسهم في زيادة إنتاج الفقر وإعادة إنتاجه. إن الهدف الكامل للنظام الرأسمالي هو تعظيم الربح، وليس تلبية الاحتياجات الإنسانية، وبالتأكيد ليس القضاء على الفقر.
ان كان هناك حل في عالم اليوم، فإن الإصلاح الجذري الذي تبنته حكومات حزب العمال في الفترة 1945-1951 يوفر لنا الخطوط العريضة لهذا الحل. بل ان الانتقادات اليسارية المعيارية لتلك الحكومات كانت خاطئة. فما فعلته تلك الحكومات لم يكن ببساطة "برنامجاً متواضعاً" لا يمكن تمييزه إلى حد كبير عما تم تنفيذه في أغلب المجتمعات الرأسمالية المتقدمة بدرجات متفاوتة. ولا يمكن شطب هذا البرنامج، كما فعل بعض الباحثين الأكاديميين الماركسيين، باعتباره مجرد وسيلة لتثبيت الرأسمالية وترويض الطبقة العاملة. فجون سافيل (John Saville) يجادل أن إنجازات تلك الحكومات "تشكل جزءاً ضرورياً وجوهرياً من بنية المجتمعات الرأسمالية المتقدمة"، لأنها تزيل "القسوة وانعدام الأمن اللذين يشكلان سمة مدمجة في الحياة الصناعية"(58). ان مثل هذه التحليلات تلغي الصراع الطبقي الذي كان يشكل أساساً للإنجازات الكبيرة التي حققتها حكومة حزب العمال، وتتجاهل التحديات المالية والسياسية الهائلة التي كان لا بد من التغلب عليها من أجل تحقيق هذه المكاسب. وهي تتجاهل ايضا الجهود القائمة على أساس طبقي والتي بذلها العمال ومنظماتهم على مدى عقود عديدة لتحقيق هذه المكاسب. إن المقاربة الأكثر دقة تتلخص في الاعتراف بأن حكومات حزب العمال قطعت شوطاً هائلاً في وقت قصير للغاية لتقليص الفقر بشكل كبير. فقد حولت الموارد المالية بعيداً عن الاستهلاك الفردي من خلال التقنين والاستثمار في إنشاء خدمات جماعية انتشلت الملايين من براثن الفقر. وكما وصفتها دوروثي تومسون (Dorothy Thompson)، فإن هذه الخدمات الجماعية قدمت فوائد "على أساس الحاجة البحتة وليس الدفع النقدي... وهذا المفهوم مناهض للرأسمالية إلى حد كبير. وكان لزاماً علينا أن نناضل من أجله في كل مرحلة". وعلى هذا فإن "هذه، من الناحية الموضوعية، انتصارات لقيم الطبقة العاملة داخل المجتمع الرأسمالي"(59).
وعلى الرغم من أن حكومات حزب العمال في الفترة 1945-1951 لم تكن ثورية، الا انها أحدثت تحسينات كبيرة في حياة العديد من الفقراء في بريطانيا، "كما أظهرت دراسات التاريخ الشفوي لأثر هيئة الخدمات الصحية الوطنية. ونحن نفعل حسناً باحترام مثل هذه الشهادة"(60). وقد جادل توني بين (Tony Benn) أنه في ظل الظروف السائدة في ذلك الوقت، حققت حكومات حزب العمال في الفترة 1945-1951 "ثورة اجتماعية"، مضيفًا، "لم تحدث هذه الأشياء بصورة حتمية، بل حدثت لأن شكلًا من أشكال القيادة الاشتراكية والديمقراطية والناشطة كان موجودا في لحظة حاسمة"(61). لقد أرست هذه التغييرات الأساس لما كان يمكن أن يكون نهاية دائمة للفقر، لو تم الاستناد الى خطواتهم الأولية، ولو تم تنفيذ رؤيتهم وشجاعتهم السياسية من قبل ورثتهم. لكن هذا لم يحدث. يجب أن يتحمل من ورث حزب العمال، حزب حكومات 1945-1951، المسؤولية عن الفشل في البناء على الأساس الذي وضعته تلك الحكومات.
لن تحل الرأسمالية مشكلة الفقر أبداً، وذلك لأن الرأسمالية هي منتج الفقر. وسوف يستمر أنصار الرأسمالية في الزعم بأن كل الجهود لابد وأن تتجه نحو استعادة النمو الاقتصادي، لأن تلبية احتياجات الفقراء لن تتم إلا من خلال المزيد من النمو. ان مثل هذه الادعاءات لا ينبغي تصديقها. فالرأسمالية غير المقيدة سوف تطالب باستمرار بالتضحيات من أجل تحقيق النمو، في حين يظل هدف هزيمة الفقر مؤجلاً إلى ما لا نهاية.
كما لا يمكن حل مشكلة الفقر من خلال برامج "مكافحة الفقر" الموجهة بصورة ضيقة. فهي تؤدي إلى انتشال بعض الناس من براثن الفقر، في حين تترك النظام سليماً، وهو النظام الذي يعمل منطقه بلا هوادة على إنتاج الفقر. فضلاً عن ذلك، ولأن هذه البرامج تستهدف الفقراء، ولأن الفقراء كانوا دوماً موضع لوم على فقرهم، بل وحتى مكروهين بسبب فقرهم، فإن مثل هذه البرامج تفتقر إلى الدعم الشعبي الواسع، وبالتالي، فإنها تتسم بالحد الأدنى من الفعالية.
إن الحد من الفقر بشكل كبير يتطلب إصلاحات جذرية. تشمل إعادة توزيع الدخل والثروة على نطاق واسع؛ وتشغيل أعداد كبيرة من الناس للقيام بالعديد من الأشياء التي يتعين القيام بها ودفع أجور معيشية كافية لهم؛ وتبني برامج شاملة تدعم جميع العاملين (وليس الفقراء فقط)؛ وتمويل هذه التدابير بنظام ضريبي تقدمي حقيقي يفرض ضرائب خاصة على أولئك الذين يراكمون كميات غير مقبولة اخلاقيا ومدمرة اقتصاديا من الدخل والثروة.
إن القيام بكل هذا يتطلب التزاماً أيديولوجياً واضحاً بالمبادئ الاشتراكية أو الديمقراطية الاجتماعية القوية والشجاعة اللازمة لتبني مثل هذه التدابير والدفاع عنها في مواجهة المعارضة الشرسة التي من المؤكد أنها ستولدها. والفشل في اتخاذ مثل هذه الخطوات يعني أن الرأسمالية ستواصل، بلا نهاية، إنتاجها المتواصل للفقر.
نشرت المادة في (Monthly Review online) في 15/ كانون الثاني (يناير)/ 2024. والنص متاح على الرابط الاتي:
Jim Silver: أستاذ فخري في جامعة وينيبغ، من بين مؤلفاته (الاوغاد والمتملصون، الرأسمالية والفقر في بريطانيا:2023)؛ (إيجاد حل للفقر:2016)؛ (حول كندا، الفقر:2014)، وغيرها.
الهوامش
(1) Trevor Blackwell and Jeremy Seabrook, A World Still to Win: The Reconstruction of the Post-War Working Class (London: Faber and Faber, 1985), 39.
(2) Bryan Palmer, “Reconsideration of Class: Precariousness as Proletarianization,” in Socialist Register 2014: Registering Class, eds. Leo Panitch, Greg Albo, and Vivek Chibber, (Halifax: Fernwood Publishing, 1985), 44.
(3) L. Beier, Masterless Men: The Vagrancy Problem in England 1560–1640 (London: Methuen, 1985).
(4) William P. Quigley, “Five Hundred Years of English Poor Laws, 1349–1834: Regulating the Working and Nonworking Poor,” Akron Law Review 30, no. 1 (1997): 12.
* حرف الـ (V) هو الحرف الأول من كلمة "vagrant" والتي تعني متشرد [المترجم].
(5) Christopher Hill, Society and Puritanism in Pre-Revolutionary England (New York: Schocken Books, 1964), 287.
(6) Catherina Lis and Hugo Soly, Poverty and Capitalism in Pre-Industrial Europe (New Jersey: Humanities Press, 1979), 85.
(7) Tanya Evans, “Unfortunate Objects”: Lone Mothers in Eighteenth Century London (London: Palgrave Macmillan, 2005), 129.
(8)Quoted in E. P. Thompson, “Time, Work Discipline and Industrial Capitalism,” in Essays in Social History, eds. M. W. Flinn and T. C. Smout, (London: Oxford University Press, 1974), 59.
(9) Dorothy Marshall, The English Poor in the Eighteenth Century (London: Routledge and Kegan Paul, 1969), 145.
(10) Tim Hitchcock and Robert Shoemaker, London Lives: Poverty, Crime and the Making of a Modern City, 16901800 (Cambridge: Cambridge University Press, 2015), 252–53.
(11) Ivy Pinchbeck and Margaret Hewitt, Children in English Society, Volume I: From Tudor Times to the Eighteenth Century (London/Toronto: Routledge and Kegan Paul and the University of Toronto Press, 1969), 181.
(12) Derek Fraser, Evolution of the British Welfare State: A History of Social Policy Since the Industrial Revolution, 2nd edition (Basingstoke: Palgrave, 1984), 41.
(13) Ivy Pinchbeck and Margaret Hewitt, Children in English Society, Volume II: From Tudor Times to the Eighteenth Century (London/Toronto: Routledge and Kegan Paul and the University of Toronto Press, 1973), 406.
(14) Roy Porter, English Society in the Eighteenth Century (London: Penguin, 1991), 58.
(15) Sven Beckert, Empire of Cotton: A Global History (New York: Penguin, 2015), 177.
(16) Quoted in J. T. Ward, The Factory Movement:183-1855 (London: Macmillan and Co. Ltd, 1962), 22.
(17) Quoted in Palmer, “Reconsideration of Class,” 54.
(18) Edward Baptist, “Towards a Political Economy of Slave Labour: Hands, Whipping Machines and Modern Power,” Slavery’s Capitalism: A New History of American Economic Developmentin eds. Sven Beckert and Seth Rockman, (Philadelphia: University of Pennsylvania Press, 2016), 52.
(19) Norma Myers, Reconstructing the Black Past: Black in Britain 1780–1830 (London: Frank Cass and Co., 1996), viii.
(20) Michael Taylor, The Interest: How the British Establishment Resisted the Abolition of Slavery (London: Bodley Head, 2020), 311.
(21) Eric Hobsbawm, The Age of Revolution: 1789–1848 (New York: New American Library, 1962), 53.
(22) Karl Marx, Capital, vol. 1 (London: Penguin Books, 1976), 926.
(23) Donald Sassoon, One Hundred Years of Socialism: The West European Left in the Twentieth Century (London: Fontana Press, 1997), 506.
(24) Paul Convery, “Unemployment,” in Britain Divided: The Growth of Social Exclusion in the 1980s and 1990s, eds. Alan Walker and Carol Walker, (London: CPAG Ltd., 1997), 187, emphasis in original; and Helga Pile and Catherine O’Donnell, “Earnings, Taxation and Wealth,” in Britain Divided, 32.
(25) Quoted in Convery, “Unemployment.”
(26) Christina Pantanzis, David Gordon and Ruth Levitas, Poverty and Social Exclusion in Britain: The Millenium Survey (Bristol: Policy Press, 2006),1.
(27) Alan Walker, “Introduction,” in Britain Divided, 9.
(28) Quoted in Pete Dorey, British Conservatism: The Politics and Philosophy of Inequality (London: I. B. Taurus, 1997), 101.
(29) Danny Dorling, “Mapping the Thatcherite Legacy: the Human Geography of Inequality in Britain since the 1970s,” in Stephen Farrell and Colin Hay (eds.), The Legacy of Thatcherism: Assessing and Exploring Thatcherite Social and Economic Policies (Oxford: Oxford University Press, 2014), 260; Colin Crouch, “The Parabola of Working Class Politics,” in The New Social Democracy, eds. Andrew Gamble and Tony Wright, (Oxford: Blackwell, 1999), 70; and Thomas Piketty, Capital and Ideology (Cambridge: Cambridge University Press, 2020), 845.
(30) Quoted in Leo Panitch, “Foreword: Reading the State in Capitalist Society,” in Ralph Miliband, The State in Capitalist Society (Pontypool: Merlin Press, 2009), xiv.
(31) Quoted in Richard Heffernan, New Labour and Thatcherism: Political Change in Britain (London: Macmillan, 2000), 22.
(32) Tony Blair, A Journey: My Political Life (New York: Alfred A. Knopf, 2010), 45.
(33) Leo Panitch and Colin Leys, The End of Parliamentary Socialism: From New Left to New Labour (London: Verso, 1997), 232.
(34) Quoted in Andrew Rawnsley, The End of the Party (London: Penguin, 2010), 6.
(35) Pat Thane, “Poverty in the Divided Kingdom,” History and Policy(September 2018): 438, historyandpolicy.org/policy-papers/rss_2.0.
(36) Quoted in Stephen Meredith, “Mr. Crosland’s Nightmare? New Labour and Inequality in Historical Perspective,” British Journal of Politics and International Relations8 (2006): 244.
(37) Owen Jones, Chavs: The Demonization of the Working Class (London: Verso, 2012), 230; Rodney Lowe, The Welfare State in Britain Since 1945, 3rd edition (New York: Palgrave Macmillan, 2005), 429.
(38) Jamie Peck, States (New York and London: The Guilford Press, 2001), 6.
(39)Claire Alexander, “Imagining the Asian Gang: Ethnicity, Masculinity and Youth after ‘the Riots, ’”Critical Social Policy 24, no. 4 (2004): 528.
(40) Imogen Tyler, “The Riots of the Underclass? Stigmatization, Mediation and the Government of Poverty and Disadvantage in Neoliberal Britain,” Sociological Research Online 18, no. 4 (2013): 3.1, 3.3, 3.4, 6.1.
(41) Paul Lewis and Tim Newburn, Reading the Riots: Investigating England’s Summer of Disorder (London: The Guardian and London School of Economics, 2011), 25.
(42) Quoted in Paul Slack, Poverty and Policy in Tudor and Stuart England (New York: Longman, 1988), 23, 25.
(43) Albert Fried and Richard Elman, Charles Booth’s London (New York: Pantheon Books, 1968), 11.
(44) Ian Law, A History of Race and Racism in Liverpool, 1660–1950(Liverpool: Merseyside Community Relations Council, 1981), 22.
(45) Pat Starkey, “The Feckless Mother: Women, Poverty and Social Workers in War-time and Post-War England,” Women’s History Review 9, no. 3 (2000): 542; Pat Starkey, “The Medical Officer of Health, the Social Worker, and the Problem Family, 1943–1968: The Case of Family Service Units,” Society for the Social History of Medicine 11, (1998): 430–31.
(46) Molly Meacher, Scrounging on the Welfare: The Scandal of the 4 Week Rule (London: Arrow Books, 1974), 40; Alan Deacon, In Search of the Scrounger: The Administration of Unemployment Insurance in Britain 1920–1931, Occasional Papers on Social Administration no. 60 (London: G. Bell and Sons, 1976); Daniel McArthur and Aaron Reeves, “The Rhetoric of Recessions: How British Newspapers Talk About the Poor When Unemployment Rises, 1896–2000,” Sociology 53, no. 6 (2019): 1007.
(47) Tracy Shildrick, “Lessons from Grenfell: Poverty Propaganda, Stigma and Class Power,” Sociological Review Monographs 66, no. 4 (2018).
(48) Thane, “Poverty in the Divided Kingdom,” 191–92.
(49) Henry Pelling, The Labour Governments, 1945–51 (New York: St. Martin’s Press, 1984), 54.
(50) David Kynaston, Austerity Britain 1945–51 (New York: Walker and Company, 2008), 172.
(51) Kenneth Morgan, Labour in Power, 1945–51 (Oxford: Clarendon, 1984), 370.
(52) Seebohm Rowntree and G. R. Lavers, Poverty and the Welfare State (London: Longman’s, Green and Co, 1951).
(53) Timothy J. Hatton and Roy E. Bailey, “Seebohm Rowntree and the Postwar Poverty Puzzle,” Economic History Review LIII, no. 3 (2000).
(54) Jose Harris, William Beveridge: A Biography (Oxford: Clarendon, 1977), 434.
(55) Stuart Hall, “New Labour’s Double Shuffle,” Review of Education, Pedagogy and Cultural Studies27, no. 4 (2005): 321.
(56) Philip Alston, Statement on Visit to the United Kingdom, by Professor Philip Alston, United Nations Special Rapporteur on Extreme Poverty and Human Rights (Geneva: United Nations Human Rights Office of the High Commissioner, 2018).
(57) Robert Booth, “UK ‘in violation of international law’ over poverty levels, says UN envoy,” Guardian, November 5, 2023.
(58) John Saville, “Labourism and the Labour Government,” in Paving the Third Way: The Critique of Parliamentary Government, ed. David Coates, (London: Merlin Press, 2003), 78.
(59) Quoted in Palmer, “Reconsiderations on Class,” 202.
(60) Robert Pearce, Attlee’s Labour Governments 1945–51 (London: Routledge, 1994), 76.
(61) Quoted in Eric Hobsbawm, The Forward March of Labour Halted? (London: Verso, 1981), 79–80.